‌‌مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما323

مسند احمد

‌‌مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما323

حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن مطر، عن عبد الله بن بريدة، قال: شك عبيد الله بن زياد في الحوض، فقال له أبو سبرة - رجل من صحابة عبيد الله بن زياد: فإن أباك حين انطلق وافدا إلى معاوية انطلقت معه، فلقيت عبد الله بن عمرو، فحدثني من فيه إلى في، حديثا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأملاه علي، وكتبته، قال: فإني أقسمت عليك لما أعرقت هذا البرذون حتى تأتيني بالكتاب، قال: فركبت البرذون، فركضته حتى عرق، فأتيته بالكتاب، فإذا فيه - حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يبغض الفحش والتفحش، والذي نفس محمد بيده، لا تقوم الساعة حتى يخون الأمين، ويؤتمن الخائن، حتى يظهر الفحش والتفحش، وقطيعة الأرحام، وسوء الجوار، والذي نفس محمد بيده (1) ، إن مثل المؤمن لكمثل القطعة من الذهب، نفخ عليها صاحبها فلم تغير، ولم تنقص، والذي نفس محمد بيده، إن مثل المؤمن لكمثل النحلة، أكلت طيبا، ووضعت طيبا، ووقعت فلم تكسر ولم تفسد "قال: وقال: " ألا وإن (2) لي حوضا ما بين ناحيتيه كما بين أيلة إلى مكة - أو قال: صنعاء إلى المدينة - وإن فيه من الأباريق مثل الكواكب، هو أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا " (3) قال أبو سبرة: فأخذ عبيد الله بن زياد الكتاب، فجزعت عليه، فلقيني يحيى بن يعمر، فشكوت ذلك إليه، فقال: والله لأنا أحفظ له مني لسورة (1) من القرآن، فحدثني به كما كان في الكتاب، سواء (2)

إنَّ مِمَّا يُكرِمُ اللهُ تعالى به نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في يَومِ القيامةِ أن يُعطيَه حَوضًا عَظيمًا يَشرَبُ مِنه المُؤمِنونَ مِن أمَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد جاءَتِ النُّصوصُ الكَثيرةُ ببَيانِ صِفةِ هذا الحَوضِ.

 وفي هذا الحَديثِ يُخبرُ عَبدُ اللَّهِ بنُ بُرَيدةَ، وهو أحَدُ التَّابِعينَ، فيَقولُ: شَكَّ عُبَيدُ اللهِ بنُ زيادٍ، وهو أحَدُ التَّابِعينَ، في الحَوضِ، أي: أنَّه شَكَّ في ثُبوتِ الحَوضِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الآخِرةِ. وفي رِوايةٍ أنَّه كان يُكَذِّبُ بالحَوضِ، فقال له أبو سَبرةَ، واسمُه سالمُ بنُ سَبرةَ، أحَدُ التَّابِعينَ مِن أصحابِ عُبَيدِ اللهِ بنِ زيادٍ: فإنَّ أباك، أي: زيادَ بنَ عُبَيدٍ، المَعروفُ بزيادِ ابنِ أبيه، أو زيادِ بنِ أبي سُفيانَ، حينَ انطَلقَ وافِدًا إلى مُعاويةَ. والوفدُ همُ القَومُ يَجتَمِعونَ ويَرِدونَ البلادَ، واحِدُهم وافِدٌ، ويُطلَقُ أيضًا على الذينَ يَقصِدونَ الأُمَراءَ لزيارةٍ واستِرفادٍ وغَيرِ ذلك، انطَلقتُ مَعَه، أي: سافرَ أبو سَبرةَ مَعَ الوفدِ الذي فيهم والِدُ عُبَيدِ اللهِ إلى مُعاويةَ. يَقولُ أبو سَبرةَ: فلَقِيتُ عَبدَ اللَّهِ بنَ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، فحَدَّثَني مِن فيه إلى فيَّ، أي: حَدَّثَني مُباشَرةً مِن فمِه إلى فمي، ويُريدُ بذلك أن يُؤَكِّدَ له صِحَّةَ ما سَمِعَ وضَبَطَه له، حَديثًا سَمِعَه عَبدُ اللَّهِ بنُ عَمرٍو مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأملاه عليَّ وكَتَبتُه، أي: أملى عَبدُ اللَّهِ بنُ عَمرٍو هذا الحَديثَ على أبي سَبرةَ، وكَتَبه أبو سَبرةَ. فقال عُبَيدُ اللهِ بنُ زيادٍ لأبي سَبرةَ: فإنِّي أقسَمتُ عليك، أي: أُناشِدُك باللهِ وأستَحلِفُك، لمَا أعرَقتَ، أي: إلَّا أسرَعتَ بهذا البرذَونِ، وهو يَقَعُ على الذَّكَرِ والأُنثى، وهو التُّركيُّ مِنَ الخَيلِ، أو غَيرُ العَرَبيِّ، حتَّى تَأتيَني بالكِتابِ، أي: أُريدُ أن تَركَبَ البِرذَونَ وتَذهَبَ مُباشَرةً حتَّى تَأتيَني بالكِتابِ الذي أملاه عليك عَبدُ اللَّهِ بنُ عَمرٍو. قال أبو سَبرةَ: فرَكِبتُ البِرذَونَ، فرَكَضتُه، أي: رَكَضَ البرذَونَ برِجلِه حتَّى يَستَحِثَّه ليُسرِعَ، حتَّى عَرقَ، أي: حتَّى أسرَعَ، فأتَيتُه بالكِتابِ، أي: ثُمَّ جِئتُ إلى عُبَيدِ اللهِ بالكِتابِ، فإذا فيه: حَدَّثَني عَبدُ اللَّهِ بنُ عَمرِو بنِ العاصِ أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: إنَّ اللَّهَ يُبغِضُ، أي: يَمقُتُ ويَكرَهُ، الفُحشَ -وهو القَبيحُ مِنَ القَولِ والفِعلِ، وقيل: مُجاوزةُ الحَدِّ- والتَّفحُّشَ، وهو التَّكَلُّفُ في التَّلفُّظِ بالفُحشِ. ثُمَّ أقسَمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: والذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيَدِه، لا تَقومُ السَّاعةُ حتَّى يُخَوَّنَ الأمينُ، أي: يوصَفَ بالخيانةِ لكَونِه فقيرًا أو وضيعًا، ويُؤتَمَنَ الخائِنُ، أي: يوصَفَ فيها الخائِنُ بالأمانةِ؛ لكَونِه ذا غِنًى ومالٍ وجاهٍ، حتَّى يَظهَرَ الفُحشُ والتَّفحُّشُ، أي: فعِندَ ذلك يَظهَرُ الفُحشُ. وقَطيعةُ الأرحامِ، أي: يَقطَعُ النَّاسُ أرحامَهم ولا يَصِلونَها، وسوءُ الجِوارِ، أي: يُسيءُ الجارُ مُعامَلةَ جارِه، ثُمَّ مَثَّل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُؤمِنَ، فقال: والذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيَدِه، إنَّ مَثَلَ المُؤمِنِ لكَمَثَلِ القِطعةِ مِنَ الذَّهَبِ، نَفَخ عليها صاحِبُها، أي: أوقدَ عليها النَّارَ فخَلَصَت، فلم تُغَيَّرْ ولم تَنقُصْ، أي: بَقيَت كَما هيَ لم يَتَغَيَّرْ شَكلُها، وإذا وُزِنَت لم يَنقُصْ وَزنُها، وإنَّ المُؤمِنَ مِثلُ هذه القِطعةِ، مَهما حَصَل مِن فِتَنٍ فإنَّه يَبقى ثابتًا لا تُغَيِّرُه هذه الفِتَنُ. والذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيَدِه، إنَّ مَثَلَ المُؤمِنِ لكَمَثَلِ النَّحلةِ، أكَلَت طَيِّبًا، ووضَعَت طَيِّبًا، ووقَعَت فلم تَكسِرْ ولم تُفسِدْ، أي: مَثَلُ المُؤمِنِ أيضًا مَثَلُ النَّحلةِ التي تَأكُلُ أطايِبَ رَحيقِ الأزهارِ، ثُمَّ تُخرِجُ عَسَلًا مُصَفًّى لذيذًا طَيِّبَ الطَّعمِ، وإذا وقَعَت على شَيءٍ فلا تَكسِرُه ولا تُفسِدُه، وهَكَذا المُؤمِنُ؛ كَلامُه طَيِّبٌ، ومُعامَلتُه طَيِّبةٌ، يُحسِنُ إلى النَّاسِ ولا يُؤذيهم بقَولِه أو فِعلِه. ثُمَّ أخبَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن حَوضِه في الآخِرةِ، فقال: ألَا وإنَّ لي حَوضًا، أي: في الآخِرةِ، ما بَينَ ناحيَتَيه، أي: جَنبَيه وطَرَفَيه، كَما بَينَ أَيلةَ إلى مَكَّةَ، أي: مِثلُ المَسافةِ التي بَينَ مَدينةِ أيلةَ، وهيَ مَدينةٌ في بلادِ الشَّامِ، وقيل: هيَ آخِرُ الحِجازِ وأوَّلُ الشَّامِ، وتُعرَفُ اليَومَ باسمِ العَقَبةِ، ميناءُ المَملَكةِ الأُردُنِّيَّةِ الهاشِميَّةِ، وما بَينَ مَكَّةَ، أو قال: صَنعاءَ إلى المَدينةِ، أي: مِثلُ مَسافةِ ما بَينَ صَنعاءَ مِنَ اليَمَنِ إلى المَدينةِ، وإنَّ في هذا الحَوضِ مِنَ الأباريقِ، أي: الأكوابِ، مِثلُ الكَواكِبِ، أي: أنَّ عَدَدَها كَثيرٌ كَكَثرةِ الكَواكِبِ في السَّماءِ، وهو أشَدُّ بَياضًا مِنَ اللَّبَنِ، أي: ماءُ هذا الحَوضِ بَياضُه أشَدُّ مِن بَياضِ اللَّبَنِ، وأحلى مِنَ العَسَلِ، أي: طَعمُه وحَلاوتُه أحسَنُ مِن طَعمِ العَسَلِ، مَن شَرِبَ مِنه، أي: مِنَ الحَوضِ، لم يَظمَأْ بَعدَها أبَدًا، أي: لا يُصيبُه ظَمَأٌ بَعدَ ذلك. يَقولُ أبو سَبرةَ: فأخَذَ عُبَيدُ اللهِ بنُ زيادٍ الكِتابَ، أي: بَعدَ ما انتَهَيتُ مِن قِراءةِ هذا الحَديثِ مِنَ الكِتابِ أخَذَ مِنِّي عُبَيدُ اللهِ الكِتابَ، فجَزِعتُ عليه، أي: خِفتُ على الكِتابِ أن يَحصُلَ له شَيءٌ. وفي رِوايةٍ أنَّ عُبَيدَ اللهِ قال: ما سَمِعتُ في الحَوضِ حَديثًا أثبَتَ مِن هذا، فصَدَّقَ به، وأخَذَ الصَّحيفةَ فحَبَسَها عِندَه. يَقولُ أبو سَبرةَ: فلقيَني يَحيى بنُ يَعمَرَ، وهو أحَدُ التَّابِعينَ، فشَكَوتُ ذلك إليه، أي: شكا أبو سَبرةَ ليَحيى أنَّ عُبَيدَ اللهِ أخَذَ مِنه الكِتابَ. فقال يَحيى: واللهِ لأنا أحفَظُ له، أي: للحَديثِ الذي في ذلك الكِتابِ مِنِّي لسورةٍ مِنَ القُرآنِ، أي: أحفَظُ ذلك الحَديثَ أشَدَّ وأكثَرَ حِفظًا مِن حِفظِ بَعضِ السُّوَرِ، يَقولُ أبو سَبرةَ: فحَدَّثَني به كَما كان في الكِتابِ سَواءً، أي: أنَّ يَحيى بنَ يَعمَرَ حَدَّث أبا سَبرةَ بذلك الحَديثِ كَما هو في الكِتابِ. ومَقصودُ يَحيى أنَّه لا خَوفٌ على ذلك الكِتابِ لو حَصَل له شَيءٌ مِن قِبَلِ عُبَيدِ اللهِ؛ فإنِّي أحفظُ ذلك الحَديثَ.
وفي الحَديثِ وُجودُ مَن كان يُشَكِّكُ في حَوضِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه التَّثَبُّتُ مِن ضَبطِ الحَديثِ.
وفيه مَشروعيَّةُ التَّلقِّي مُباشَرةً مِن أهلِ العِلمِ.
وفيه مَشروعيَّةُ كِتابةِ الحَديثِ.
وفيه الحِرصُ على سَماعِ الحَديثِ.
وفيه ذِكرُ بَعضِ عَلاماتِ السَّاعةِ.
وفيه عَلمٌ مِن أعلامِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه إثباتُ صِفةِ البُغضِ للَّهِ.
وفيه التَّحذيرُ مِن سوءِ الأخلاقِ مِنَ الفُحشِ والتَّفحُّشِ.
وفيه مَشروعيَّةُ ضَربِ الأمثالِ الحِسِّيَّةِ لتَقريبِ الفَهمِ للسَّامِعينَ.
وفيه إثباتُ حَوضِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الآخِرةِ.
وفيه بَيانُ بَعضِ صِفاتِ الحَوضِ.
وفيه ما كان عليه السَّلَفُ مِن حِفظِ الأحاديثِ في الصُّدورِ .