مسند عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه 45
مسند احمد
حدثنا أبو بكر بن عياش، حدثني عاصم، عن زر، عن ابن مسعود، قال: كنت أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فقال: «يا غلام، هل من لبن؟» قال: قلت: نعم، ولكني مؤتمن، قال: «فهل من شاة لم ينز عليها الفحل؟» فأتيته بشاة، فمسح ضرعها، فنزل لبن، فحلبه في إناء، فشرب، وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: «اقلص» فقلص، قال: ثم أتيته بعد هذا، فقلت: يا رسول الله، علمني من هذا القول، قال: فمسح رأسي، وقال: «يرحمك الله، فإنك غليم معلم»
الصَّحابةُ خَيرُ القُرونِ؛ فهمُ الذينَ ناصَروا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ووقَفوا مَعَه، وكانوا يُقدِّمونَ أنفُسَهم دونَ نَفسِه؛ ولهذا أثنى اللهُ تعالى عليهم، وأثنى عليهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولبَعضِهم مَناقِبُ ومَزايا يَتَمَيَّزُ بها عَن غَيرِه، ومِن ذلك الصَّحابيُّ الجَليلُ عَبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، أسلَم قديمًا وهاجَرَ الهِجرَتَينِ، وشَهِدَ بَدرًا والمَشاهِدَ بَعدَها، ولازَم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان صاحِبَ نَعلَيه، وهو أوَّلُ مَن جَهَرَ بالقُرآنِ بمَكَّةَ، وكان فقيهًا عالِمًا بالقُرآنِ والحَديثِ، رَوى عِلمًا كَثيرًا، وقد أخَذَ مِن في رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَبعينَ سورةً، وفي هذا الحَديثِ يَذكُرُ عَبدُ اللَّهِ بنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه كان يَرعى الغَنَمَ لعُقبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ في مَكَّةَ، فمَرَّ به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأبو بَكرٍ عِندَما هَرَبا مِنَ المُشرِكينَ، فقال رَسولُ اللهِ له: يا غُلامُ، هَل مِن لَبَنٍ؟ أي: هَل يوجَدُ في هذه الشِّياهِ مِن لَبَنٍ. فقال ابنُ مَسعودٍ: نَعَم، ولَكِنِّي مُؤتَمَنٌ، أي: لا أستَطيعُ أن أُعطيَك، فأنا مُؤتَمَنٌ عليها. وفي رِوايةٍ: يا غُلامُ عِندَك لَبَنٌ تَسقينا؟ فقال ابنُ مَسعودٍ: إنِّي مُؤتَمَنٌ ولَستُ بساقيكما. فقال له رَسولُ الله: فهَل مِن شاةٍ لَم يَنْزُ، أي: لَم يَأتِ، عليها الفَحلُ. فجاءَ له ابنُ مَسعودٍ بشاةٍ، فمَسَحَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضَرعَها، فنَزَلَ لَبَنٌ، فحَلَبَه في إناءٍ، فشَرِبَ رَسولُ الله وسَقى أبا بَكرٍ، ثُمَّ قال للضَّرعِ: اقلُصْ، أي: انقَبِضْ، فقَلَصَ! ثُمَّ إنَّ ابنَ مَسعودٍ جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ ذلك يَطلُبُ مِنه أن يُعَلِّمَه، فقال: يا رَسولَ اللهِ، عَلِّمْني مِن هذا القَولِ، أي: القُرآنِ. فمَسَحَ رَسولُ اللهِ رَأسَ ابنِ مَسعودٍ وقال: يَرحَمُك اللهُ؛ فإنَّك غُلَيِّمٌ، وهو تَصغيرُ غُلامٍ، مُعَلَّمٌ، أي: موفَّقٌ مِنَ الله تعالى للتَّعَلُّمِ، أو ستَكونُ مُعَلِّمًا. وقد صَدَقَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلك؛ فكان ابنُ مَسعودٍ مِن أعلَمِ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالقُرآنِ. وفي رِوايةٍ: أنَّ أبا بَكرٍ جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصَخرةٍ مَنقورةٍ، أي: مَحفورةٍ كالإناءِ، فاحتَلَبَ فيها فشَرِبَ رَسولُ اللهُ وشَرِبَ أبو بَكرٍ وشَرِبَ ابنُ مَسعودٍ، ثُمَّ جاءَه بَعدَ ذلك، وقال: يا رَسولَ اللهِ، عَلِّمْني مِن هذا القُرآنِ. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّك غُلامٌ مُعَلَّمٌ. يَقولُ ابنُ مَسعودٍ: فأخَذتُ مِن في رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَبعينَ سورةً، أي: أنَّه تَلَقَّى مِن فمِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَبعينَ سورةً مُشافَهةً ومُباشَرةً بدونِ واسِطةِ أحَدٍ، وبهذا كان يَفتَخِرُ ابنُ مَسعودٍ على غَيرِه رَضِيَ اللهُ عنه
وفي الحَديثِ بَيانُ مُعجِزةٍ مِن مُعجِزاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وفيه تَواضُعُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وفيه صُحبةُ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وفيه تَعليمُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القُرآنَ لأصحابِه
وفيه فَضلُ عَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه
وفيه أنَّ الرَّاعيَ مُؤتَمَنٌ على مالِ مَن يَرعى له ولَو كان كافِرًا