مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه 243
حدثنا عبد الله، حدثني أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، قالا: حدثنا محمد بن فضيل، عن حصين بن عبد الرحمن، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت عليا، يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد، والزبير بن العوام، وكلنا فارس، فقال: " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ " كذا قال ابن أبي شيبة: " خاخ "، وقال ابن نمير في حديثه: " روضة كذا وكذا (2) "، وقال ابن نمير: حدثناه عفان، حدثنا خالد، عن حصين: مثله، قال: " روضة خاخ " (3)
الخَطأُ والتَّقصيرُ صِفةٌ مُلازِمةٌ لجَميعِ البشَرِ، إلَّا مَن عصَمَهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ مِن أنْبيائِه ورُسُلِه، والْتِماسُ الأعْذارِ للصَّالِحينَ وأصْحابِ سابِقاتِ الخَيرِ مِن شِيَمِ الكِرامِ.
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي عَليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمَرَه هو، والزُّبَيرَ بنَ العَوَّامِ، والمِقْدادَ بنَ الأسوَدِ رَضيَ اللهُ عنهم؛ أنْ يَنطَلِقوا حتَّى يَأْتوا «رَوْضةَ خاخٍ»، وهي مَوضِعٌ بيْن مكَّةَ والمَدينةِ، يَبعُدُ عنِ المَدينةِ اثنَيْ عشَرَ ميلًا؛ فإنَّ بهذا المَكانِ ظَعينةً، أي: امْرأةً مُسافِرةً في هَودَجٍ -قيلَ: اسْمُها سارةُ، وكانت مَوْلاةَ عَمرِو بنِ هِشامِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ، وقيلَ: اسمُها كَنودُ، وتُكنَّى بأمِّ سارةَ- معَها رسالةٌ مكتوبةٌ، فلْيَأخُذوا منها هذه الرِّسالةَ. فانطَلَقوا تَجْري بهم خَيلُهم حتَّى أتَوُا الرَّوْضةَ الَّتي ذكَرَها لهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فوَجَدوا المرأةَ، وأمَروها أنْ تُخرِجَ الكِتابَ الَّذي معَها، فأنكَرَتْ أنَّ معَها كِتابًا، فأخْبَروها إمَّا أنْ تُخرِجَ الكِتابَ، أو يَخْلَعوا بأنفُسِهم عنها ثِيابَها حتَّى يَجِدوا الكتابَ، وهذا تَهديدٌ شَديدٌ لها، فأخرَجَتْه مِن عِقاصِها، وهو الشَّعرُ المَضْفورُ، أو الخَيْطُ الَّذي يُشَدُّ به أطْرافُ ذَوائبِ الشَّعرِ.
وأحْضَروا الكتابَ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقُرِئَ، فإذا مكتوبٌ فيه: مِن حاطِبِ بنِ أبي بَلْتَعةَ، إلى ناسٍ بمكَّةَ منَ المُشرِكينَ، قيلَ: همْ صَفْوانُ بنُ أُمَيَّةَ، وسُهَيلُ بنُ عَمْرٍو، وعِكْرِمةُ بنُ أبي جَهلٍ. ويُخبِرُهم حاطبٌ رَضيَ اللهُ عنه في هذا الكتابِ ببَعضِ أمرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ مِن كَونِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ عزَمَ على غَزوِ مكَّةَ، وتَجهَّزَ لفَتحِها.
فسَألَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حاطِبًا عن رِسالَتِه تلك وقال: «ما هذا؟»، فطَلَبَ حاطبٌ رَضيَ اللهُ عنه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ألَّا يَعجَلَ عَليه، وبيَّن سَببَ فِعلِه بأنَّه كان امْرأً مُلْصَقًا في قُرَيشٍ -أي: حَليفًا لها- وليس له في القومِ أصلٌ ولا عَشيرةٌ، وأنَّ المُهاجِرينَ الذين هاجَروا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لهمْ في مكَّةَ قَراباتٌ ونَسَبٌ يَحْمُونَ بها أهْليهم وأموالَهم التي بمكَّةَ، فأحَبَّ حاطبٌ لمَّا لم يكُنْ مِثلَهم في النَّسَبِ، أنْ يَتَّخِذَ عندَ أهلِ مكَّةَ يَدًا -أي: مِنَّةً عليهم- يَحْمُونَ بها قَرابَتَه، وأنَّه لم يَفعَلْ ذلك ارْتِدادًا عن دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ولا رِضًا بالكُفرِ بعْدَ الإسْلامِ، فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أمَا أنَّه قدْ صَدَقَكم، فقال عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه: يا رَسولَ اللهِ، دَعْني أضرِبْ عُنُقَ هذا المُنافِقِ، وقدْ قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه ذلك، برَغمِ إخبارِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قدْ صَدَقَ فيما قال، وهذه الشَّهادةُ نافيةٌ للنِّفاقِ قَطعًا؛ لمَا كان عندَ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه مِن القوَّةِ في الدِّينِ، وبُغضِ المُنافِقينَ، وظنَّ أنَّ فِعلَ حاطبٍ رَضيَ اللهُ عنه هذا يُوجِبُ قَتلَه، لكنَّه لم يَجزِمْ بذلك؛ فلذا استَأذَنَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في قَتلِه، وأطلَقَ عليه النِّفاقَ لكَونِه أبطَنَ خِلافَ ما أظهَرَ، وقدْ عذَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عُمَرَ؛ لأنَّه كان مُتأوِّلًا؛ إذ لا ضرَرَ فيما فعَلَه، ولم يَأذَنْ رَسولُ اللهِ في قَتلِ حاطِبٍ رَضيَ اللهُ عنه، وبيَّنَ العِلَّةَ في تَرْكِ قَتلِه؛
فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّه قد شَهِدَ بَدرًا، وما يُدْريكَ لعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ على مَن شَهِدَ بَدرًا فقال: اعْمَلوا ما شِئْتم؛ فقدْ غفَرْتُ لكم»، وهذا خِطابُ تَشريفٍ وإكْرامٍ «اعْمَلوا ما شِئْتم»، أي: في المُستَقبَلِ؛ فقدْ غفَرْتُ لكم، والمُرادُ الغُفْرانُ لهم في الآخِرةِ، وعبَّرَ عمَّا سيَأْتي في الآخِرةِ بالفعلِ الماضي مُبالَغةً في تَحقُّقِه.
وقدْ أظهَرَ اللهُ تعالَى صِدقَ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في ذلك؛ فإنَّهم لم يَزالوا على أعْمالِ أهلِ الجنَّةِ إلى أنْ فارَقوا الدُّنْيا، ولم يقَعْ منهم ذَنبٌ في المُستَقبَلِ يُنافي عَقيدةَ الدِّينِ؛ ولذا قبِلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عُذرَ حاطبٍ رَضيَ اللهُ عنه؛ لمَا علِمَ مِن صحَّةِ عَقيدَتِه، وسَلامةِ قَلبِه، وأنزَلَ اللهُ تعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]، والإلْقاءُ: إيصالُ المَوَدَّةِ إليهم، والمُرادُ بالعَداوةِ: العَداوةُ الدِّينيَّةُ الَّتي جعَلَتِ المُشرِكينَ يَحرِصونَ كلَّ الحِرصِ على أذَى المُسلِمينَ، والمَعنى: يا مَن آمَنْتم باللهِ تعالَى إيمانًا حقًّا، احْذَروا أنْ تَتَّخِذوا أعْدائي وأعْداءَكم أوْلياءَ، وأصْدِقاءَ، وحُلَفاءَ؛ بل جاهِدوهم، وأغْلِظوا عليهم، واقْطَعوا الصِّلةَ الَّتي بيْنكم وبيْنهم.
وناداهُمْ بصِفةِ الإيمانِ؛ لتَحْريكِ حَرارةِ العَقيدةِ الدِّينيَّةِ في قُلوبِهم، ولحَضِّهم على الاسْتِجابةِ لمَا نَهاهم عنه، وفي وَصفِهم بالإيمانِ دَليلٌ على أنَّ الإتْيانَ بالكَبيرةِ لا يُنافي أصْلَ الإيمانِ.
ثمَّ ساقَ سُبحانَه الأسْبابَ الَّتي مِن شَأْنِها حَملُ المؤمِنينَ على عدَمِ مُوالاةِ أعْداءِ اللهِ وأعْدائِهم؛ فبيَّنَ أنَّهم قد كَفَروا بما جاءَكم على لِسانِ رَسولِكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن الحقِّ الَّذي يَتمثَّلُ في القُرآنِ الكَريمِ، وفي كلِّ ما أوْحاه سُبحانه إلى رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولم يَكتَفوا بكُفرِهم بما جاءَكم أيُّها المؤمِنونَ مِن الحقِّ؛ بل تَجاوَزوا ذلك إلى مُحاوَلةِ إخْراجِ رَسولِكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإخْراجِكم مِن مكَّةَ؛ مِن أجْلِ إيمانِكم باللهِ ربِّكم، ثمَّ أكَّدَ سُبحانه الأمرَ بتَركِ مَودَّةِ المُشرِكينَ، فخاطَبَهم: إنْ كُنتم أيُّها المؤمِنونَ قدْ خرَجْتم مِن مكَّةَ مِن أجْلِ الجِهادِ في سَبيلي، ومِن أجْلِ طلَبِ مَرْضاتي؛ فاتْرُكوا اتِّخاذَ عَدوِّي وعَدوِّكم أوْلياءَ، واتْرُكوا مَودَّتَهم ومُصافاتَهم.
وقولُه سبحانَه: {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} مَعْناها: تَفْعَلونَ ما تَفْعَلونَ مِن إلْقاءِ المَودَّةِ إلى عَدوِّي وعَدوِّكم، ومِن إسْرارِكم بها إليهم، والحالُ أنِّي أعلَمُ منهمْ ومنكم بما أخْفَيْتُموه في قُلوبِكم، وما أعْلَنْتُموه، ومُخبِرٌ رَسولَنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلك. ثمَّ ختَمَ سُبحانَه الآيةَ بقَولِه: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}، أي: ومَن يَفعَلْ ذلك الاتِّخاذَ لعَدوِّي وعَدوِّكم أوْلياءَ، ويُلقِ إليهم بالمَودَّةِ؛ فقدْ أخْطأَ طَريقَ الحَقِّ والصَّوابِ.
وفي الحَديثِ: البَيانُ عَن بَعضِ أعْلامِ النُّبوَّةِ؛ وذلك إعْلامُ اللهِ تعالَى نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بخَبَرِ المَرْأةِ الحامِلةِ كِتابَ حاطِبٍ إلى قُرَيشٍ، ومَكانِها الَّذي هي به، وذلك كُلُّه بالوَحيِ.