الأربعون النووية 6
بطاقات دعوية
«عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» .
رواه البخاري ومسلم.
هذا الحديثُ الجليلُ هو أحدُ الأحاديثِ الَّتي عليها مَدارُ الإسلامِ؛ فهو حَديثٌ عظيمٌ، وأصلٌ مِن أُصولِ الشَّريعةِ
وهو مِن جَوامعِ كَلِمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
حثَّ فيه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الورَعِ، وترْكِ المُتشابهاتِ في الدِّينِ، وبيَّنَ أنَّ الحَلالَ ظاهرٌ واضحٌ، وهو كلُّ شَيءٍ لا يُوجدُ دَليلٌ على تَحريمِه؛ مِن كتابٍ أو سُنَّةٍ، أو إجماعٍ أو قياسٍ؛ وذلك لأنَّ الأصلَ في الأشياءِ الإباحةُ، وكذلك الحرامُ ظاهرٌ واضحٌ، وهو ما دلَّ دَليلٌ على تَحريمِه، سواءٌ كان هذا الدَّليلُ مِن الكِتابِ، أو مِن السُّنَّةِ، أو مِن الإجماعِ. وبيَّنَ أنَّ بيْن الحلالِ والحرامِ قِسمًا ثالثًا، وهو المُشتبِهاتُ، وهي الأمورُ الَّتي تكونُ غيرَ واضحةِ الحُكمِ مِن حيثُ الحِلُّ والحُرمةُ، فلا يَعلَمُ الكثيرُ هل هي حَلالٌ أو حَرامٌ، ويَدخُلُ في ذلك جَميعُ الأُمورِ المشكوكِ فيها؛ مِثل: المالِ المَشبوهِ أو المَخلوطِ بالرِّبا، أو غيرِه مِن الأموالِ المُحرَّمةِ، أمَّا إنْ تأكَّدَ أنَّ هذا مِن عَينِ المالِ الرِّبويِّ، فإنَّه حَرامٌ صِرفٌ دونَ شكٍّ، ولا يُعَدُّ مِن المُشتبِهاتِ. ثمَّ أوضَحَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ مَن اجتنَبَ المُشتبِهاتِ فقدْ طلَبَ البَراءةَ لنفْسِه، فيَسلَمُ له دِينُه مِن النَّقصِ، وعِرضُه مِن القدْحِ والذِّمِّ والسُّمعةِ السَّيِّئةِ، أمَّا مَن وقَع في الشُّبهاتِ واجترَأَ عليها، فقد عرَّض نفْسَه للخطَرِ، وأوشَكَ على الوُقوعِ في الحرامِ، كراعٍ يَرعَى حولَ الحِمَى، وهو: المكانُ الَّذي جَعَله الملِكُ لرَعْيِ مَواشِيه، وتوعَّدَ مَن رعَى فيه بغيرِ إذنِه بالعُقوبةِ الشَّديدةِ؛ فالرَّاعي حولَ الأرضِ الَّتي حَماها الملِكُ لنفْسِه، وجعَلَها خاصَّةً له، قد تَدخُلُ ماشيتُه في الحِمى، فيَستحِقُّ عُقوبةَ السُّلطانِ، كذلك مَن يَتهاونُ بالشُّبهاتِ، فإنَّه على خَطَرٍ؛ لأنَّها ربَّما كانت حَرامًا، فيقَعُ فيه، وأنَّه ربَّما تَساهَلَ في الشُّبهاتِ فأدَّى به ذلك إلى الاستهتارِ واللَّامبالاةِ، فيَقَعُ في الحرامِ عمْدًا؛ فإنَّ الشُّبهةَ تجُرُّ إلى الصَّغيرةِ، والصَّغيرةُ تجُرُّ إلى الكبيرةِ، نَسأَلُ اللهَ السَّلامةَ.ثمَّ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ألَا وإنَّ لكلِّ ملِكٍ حِمًى، ألَا وإنَّ حِمى اللهِ مَحارمُه»، أي: إنَّ حِمَى اللهِ هي المعاصي الَّتي حرَّمها على عِبادِه، فمَن دخَلَ حِماهُ بارتكابِ شَيءٍ مِن المعاصي هلَكَ، ومَن قارَبَه بفِعلِ الشُّبهاتِ كان على خطَرٍ.ثم ذَكَر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كَلمةً جامعةً لصَلاحِ حرَكاتِ بَني آدَمَ وفَسادِها،
وهي أنَّ أساسَ صلاحِ الجَسدِ كُلِّه وأساسَ فسادِه مبنيٌّ على صلاحِ القَلْبِ وفَسادِه؛ فإذا صلَحَ القلبُ صلَحَت إرادتُه، وصلَحَت جَميعُ الجوارحِ، فلم تَنبعِثْ إلَّا إلى طاعةِ اللهِ، واجتنابِ سَخَطِه، فقَنِعَتْ بالحلالِ عن الحرامِ، وإذا فسَد القلبُ فسَدَت إرادتُه، ففسَدَتِ الجوارحُ كلُّها، وانبعثَتْ في مَعاصي اللهِ عزَّ وجلَّ، وما فيه سَخَطُه، ولم تَقنَعْ بالحلالِ، بلْ أسرَعَتْ في الحرامِ بحسَبِ هَوى القلبِ ومَيلِه عنِ الحقِّ.