الإحصاء في الصدقة 1
سنن النسائي
أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب، حدثني الليث، قال: حدثنا خالد، عن ابن أبي هلال، عن أمية بن هند، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قال: كنا يوما في المسجد جلوسا، ونفر من المهاجرين والأنصار فأرسلنا رجلا إلى عائشة ليستأذن، فدخلنا عليها، قالت: دخل علي سائل مرة، وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت له بشيء، ثم دعوت به، فنظرت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما تريدين أن لا يدخل بيتك شيء، ولا يخرج، إلا بعلمك» قلت: نعم، قال: «مهلا يا عائشة، لا تحصي، فيحصي الله عز وجل عليك»
اللَّهُ سبحانَه وتعالى هو الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، وخزائنُه لا تَنفَدُ، وقد حَثَّ عِبادَه على الإنفاقِ وبذْلِ الخَيرِ في وجوهِ الخير، وعدمِ الإحصاءِ والمحاسبةِ لِمَا أنفَقوا؛ لأنَّه هو الَّذي يُخلِفُ بالعوَضِ ويَجزي بالأجرِ العَظيمِ على الإنفاقِ في سبيلِه
وفي هذا الحديثِ يقولُ أبو أُمامةَ بنُ سهْلِ بنِ حُنَيفٍ رضِيَ اللهُ عنه: "كنَّا يومًا في المسجِدِ جُلوسًا"، أي: في مسجِدِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، "ونفَرٌ مِن المهاجِرين والأنصارِ"، أي: ومَعَنا جماعةٌ مِن المهاجِرين والأنصارِ، "فأرسَلْنا رجلًا إلى عائشةَ ليستأذِنَ، فدخَلْنا عليها"، فاستَأْذنوا على أُمِّ المؤمنين عائشةَ للدُّخولِ؛ وهذا مِن الأدَبِ معها، ومِن تَطبيقِ أوامِرِ الشَّرعِ في الاستِئذانِ
فحَكتْ لهم عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها قائلةً: "دخَل عليَّ سائلٌ مرَّةً"، أي: مِسكينٌ يطلُبُ حاجةً مِن طعامٍ ونَحوِه، "وعندي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فأمرتُ له بشَيءٍ"، أي: أمرَتْ غيرَها ممَّن في بيتِها بإعطاءِ هذا المسكينِ السَّائلِ شيئًا مِن البيتِ، "ثمَّ دَعوتُ به فنَظرتُ إليه"، أي: نظَرتُ وعرَفتُ الشَّيءَ الَّذي جاؤوا به ليُعطوه السَّائلَ، "فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: أمَا تُريدين ألَّا يَدخُلَ بيتَك شيءٌ ولا يخرُجَ إلَّا بعِلمِك؟!"، أي: هل تُريدين أنْ تَعرِفي وتُحصي كلَّ شيءٍ يدخُلُ بيتَكِ أو يَخرُجُ منه على سَبيلِ الصَّدقةِ أو غيرِها؟! وهذا مِن الإنكارِ عليها في إحصاءِ الصَّدقاتِ، "قلتُ: نَعم"، وهذا الجوابُ منها يَحتمِلُ وجهين؛
الأوَّلُ: نعَمْ أُريد أنْ أُحصيَ وأعرِفَ كلَّ ما يدخُلُ ويَخرجُ مِن بَيتي
والثَّاني: أنَّه جوابٌ منها تَصديقٌ، وتقريرٌ لِمَا بعدَ الاستِفهامِ مِن النَّفيِ، أي: ما أُريدُ ذلك، بل أريدُ أنْ يُعطيَني اللهُ تعالى مِن غيرِ عِلمي بذلك؛ فالَّذي يَدخُلُ بعِلمِ الإنسانِ مَحصورٌ، ورِزقُ اللهِ أوسَعُ مِن ذلك، فيُطلَبُ منه تعالى أنْ يُعطيَ بلا حَصْرٍ ولا عَدٍّ؛ فحاصِلُ الاستفهامِ: أمَا تُريدين تَقديرَ الصَّدقةِ ورِزقِ اللهِ؟ وحاصِلُ الجوابِ أنَّها لا تريدُ ذلك، بل تريدُ التَّكثيرَ فيهما
فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "مَهلًا يا عائشَةُ"، أي: تمهَّلي واصبِري وترفَّقي في الأمرِ، "لا تُحصي فيُحصيَ اللهُ عزَّ وجلَّ عليكِ"، أي: لا تَعُدِّي وتَحسُبي ما تصَدَّقتِ به فيضيِّقَ اللهُ عليكِ، والإحصاءُ مِن الإفراطِ في التَّقصِّي والاستِئثارِ بالشَّيءِ، ومعرفةِ قدْرِ الشَّيءِ وزنًا أو عددًا، والمعنى النَّهيُ عن مَنعِ الصَّدقةِ خَشيةَ النَّفادِ؛ فإنَّ ذلك أعظَمُ الأسبابِ لقَطْعِ مادَّةِ البرَكةِ؛ لأنَّ اللهَ يُثيبُ على العَطاءِ بغيرِ حِسابٍ، ومَن لا يُحاسِبُ عند الجزاءِ لا يُحسَبُ عليه عند العَطاءِ، ومَن عَلِمَ أنَّ اللهَ يَرزقُه مِن حيثُ لا يحتسِبُ فحَقُّه أنْ يُعطِيَ ولا يَحسُبَ، وقيل: المرادُ بالإحصاءِ عَدُّ الشَّيءِ لأنْ يُدَّخرَ ولا ينفَقَ منه، وأحصاه اللهُ: قطَعَ البرَكةَ عنه، أو حبَس مادَّةَ الرِّزقِ أو المحاسبَةِ عليه في الآخرَةِ
وفي الحَديثِ: الحثُّ على الصَّدقةِ بغيرِ حِسابٍ، والحثُّ على حُسنِ التَّوكُّلِ على اللهِ وعدمِ الإمساكِ خَشيةَ نَفادِ ما في اليَدِ