الاستعاذة من الهم 1
سنن النسائي
أخبرنا علي بن المنذر، عن ابن فضيل، قال: حدثنا محمد بن إسحق، عن المنهال بن عمرو، عن أنس بن مالك، قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم دعوات لا يدعهن كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وغلبة الرجال»
رافَقَ الصَّحابةُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حِلِّه وتَرْحالِه، فكانوا خَيرَ أعوانٍ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على قَضاءِ حَوائِجِه، وتَنفيذِ أوامِرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكانوا نِعْمَ النَّاقِلينَ لِهَدْيِه، والمُبلِّغينَ لِسُنَّتِه
وفي هذا الحَديثِ يَحكي أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ طَلَبَ مِن أبي طَلحةَ زَيدِ بنِ سَهلٍ الأنصاريِّ، زَوجِ أُمِّ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنهم أنْ يُعيِّنَ له غُلامًا يَخدُمُه؛ حتَّى يَخرُجَ إلى غَزوةِ خَيبَرَ، وكانَتْ في السَّنةِ السَّابِعةِ مِنَ الهِجرةِ بيْن المُسلِمينَ واليَهودِ، وكانت قَريةً يَسكُنُها اليَهودُ على بُعدِ (153 كم) تَقريبًا مِن جِهةِ الشَّامِ
فخَرَجَ أبو طَلحةَ مُردِفًا لِأنَسِ بنِ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه خَلْفَه على الدَّابَّةِ وهو غُلامٌ قَد قارَبَ البُلوغَ، ومَعلومٌ أنَّ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه إنَّما خَدَمَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قبْلَ خُروجِه لخَيبَرَ بسَنَواتٍ، ويُحمَلُ ذلك على الاستِئذانِ المَذكورِ في المُسافَرةِ به، لا في أصْلِ الخِدمةِ؛ لأنَّها كانَتْ مُتقَدِّمةً. فكانَ يَخدُمُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا نَزَلَ، في أيِّ وَقتٍ، وفي أيِّ مَكانٍ، وكانَ يَسمَعُه كَثيرًا يَقولُ: «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجزِ والكَسَلِ، والبُخلِ والجُبنِ، وضَلَعِ الدَّيْنِ، وغَلَبَةِ الرِّجَالِ». وقد جَمَعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في هذا الدُّعاءِ التَّعوُّذَ مِن أُصولِ الخِصالِ المُثَبِّطةِ عنِ العَمَلِ، فاستَعاذَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الهَمِّ، وهو ألَمُ النَّفسِ يَنشَأُ عنِ الفِكرِ فيما يُتوَقَّعُ حُصولُه ممَّا يُتأذَّى به، والحَزَنُ ألَمٌ بالنَّفْسِ نَتيجةَ شَيءٍ وَقَعَ، وقيلَ: هُما بمَعنًى واحِدٍ. واستَعاذَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ العَجزِ والكَسَلِ، والفَرقُ بيْنَهما: أنَّ الكَسَلَ تَرْكُ الشَّيءِ مع القُدرةِ على فِعلِه، والعَجزَ عَدَمُ القُدرةِ. واستَعاذَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الجُبنِ والبُخلِ؛ لِمَا فيهما مِنَ التَّقصيرِ عن أداءِ الواجِباتِ، والقيامِ بحُقوقِ اللهِ سُبحانَه وتَعالى، وإزالةِ المُنكَرِ؛ ولِأنَّه بشَجاعةِ النَّفْسِ وقُوَّتِها المُعتَدِلةِ تَتِمُّ العِباداتُ، ويَقومُ بنَصرِ المَظلُومِ، وبالسَّلامَةِ مِنَ البُخلِ يَقومُ بحُقوقِ المالِ، ويَنبَعِثُ للإنفاقِ والجُودِ ولِمَكارمِ الأخلاقِ، ويَمتَنِعُ مِنَ الطَّمَعِ فيما ليس له، واستَعاذَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن ضَلَعِ الدَّيْنِ، أي: ثِقَلِه، وذلك حينَ لا يَجِدُ مَن عليه الدَّيْنُ وَفاءً، ولا سيَّما مع المُطالَبةِ، ومِن غَلَبةِ الرِّجالِ، أي: قَهْرِهم وشِدَّةِ تَسَلُّطِهم عليه، والمُرادُ بالرِّجالِ الظَّلَمةُ، أوِ الدَّائِنونَ
ويَحكي أنَسٌ رَضيَ اللهُ عنه أنَّهم لَمَّا وَصَلوا خَيبَرَ، وفَتَحَ اللهُ الحِصنَ المُسَمَّى بالقَموصِ في خَيبَرَ، ذُكِرَ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَمالُ أُمِّ المُؤمِنينَ صَفيَّةَ بِنتِ حُيَيِّ بنِ أخطَبَ رَضيَ اللهُ عنها، وقد قُتِلَ زَوجُها كِنانةُ بنُ الرَّبيعِ بنِ أبي الحُقَيْقِ، وكانَتْ عَروسًا، والعَروسُ: نَعتٌ يَستَوي فيه الرَّجُلُ والمَرأةُ، فاصطَفاها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِنَفْسِه؛ لِأنَّها بِنتُ مَلِكٍ مِن مُلوكِهم، فَخَرَجَ بها مِن خَيبَرَ حتَّى بَلَغوا سَدَّ الصَّهباءِ -وهو اسمُ مَوضِعٍ أسفَلَ خَيبَرَ، جَنوبَ شَرقِ الثَّمدِ، وهي بَلدةٌ قَريبةٌ مِن خَيبَرَ، وتَقَعُ جَنوبَها- طَهُرتْ مِنَ الحَيضِ، فبَنى بها صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: دَخَلَ بها صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ صَنَعَ «حَيْسًا»، وهو طَعامٌ مِن تَمرٍ وأقِطٍ وسَمنٍ، في «نِطَعٍ صَغيرٍ»، والنِّطَعُ: بِساطٌ مِنَ الجِلدِ يُفرَشُ، والمُرادُ به السُّفرةُ، ثمَّ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِأنَسِ بنِ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه: أعْلِمْ مَن حَولَكَ مِنَ المُسلِمينَ. قال أنَسٌ رَضيَ اللهُ عنه: فدَعَوتُهم إلى وَليمَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكانَتْ تِلكَ وَليمةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على أُمِّ المُؤمِنينَ صَفيَّةَ بِنتِ حُيَيٍّ رَضيَ اللهُ عنها، فما كان فيها خُبزٌ ولا لَحمٌ
وأخبَرَ أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّهم وهمْ راجِعون إلى المَدينةِ رَأى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحَوِّي لها، أي: يَجعَلُ لها حَويَّةً، وهي كِساءٌ مَحشُوُّ يُلَفُّ حَولَ سَنامِ البَعيرِ، تَجلِسُ عليه صَفيَّةُ مِن خَلفِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ جَلَسَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عِندَ بَعيرِه، فوَضَعَ رُكبَتَه لِصَفيَّةَ رَضيَ اللهُ عنها لتَصعَدَ عليها كالدَّرَجِ، ووَضَعتْ صَفيَّةُ رِجلَها على رُكبَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فرَكِبتْ في سُهولةٍ ويُسرٍ
فلَمَّا أشْرَفوا على المَدينةِ واستَقبَلوها في رُجوعِهم مِن خَيبَرَ، نَظَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى جَبَلِ أُحُدٍ، وهو جَبَلٌ يَقَعُ بالمَدينةِ في شَمالِيِّها الغَربيِّ، بيْنَه وبيْنَ المَسجِدِ النَّبويِّ أربَعةُ كيلومتراتٍ، وكانت عِندَه الغَزوةُ المَشهورةُ في أوائِلِ شَوَّالٍ سَنةَ ثَلاثٍ مِنَ الهِجرةِ
فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هذا جَبَلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّه، ولا مانِعَ مِن وُقوعِ مِثلِ ذلك الحُبِّ، بأنْ يَخلُقَ اللهُ تعالَى المَحَبَّةَ في بَعضِ الجَماداتِ، كما جازَ التَّسبيحُ منها، ومعنى حُبِّه لهم: أنَّه يُحِبُّ السَّاكِنينَ بفِنائِه، والمُقيمينَ في ساحَتِه، ومَحَبَّتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِلجَبَلِ تُوجِبُ له البَرَكةَ، وتُرَغِّبُ في مُجاوَرَتِه
ثمَّ نَظَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المَدينةِ، فقال: «اللَّهُمَّ إنِّي أُحَرِّمُ ما بيْنَ لابَتَيْها»، واللَّابَتانِ: الحَرَّتانِ، واحِدَتُهما لابةٌ، وهي الأرضُ ذاتُ حِجارةٍ سَوداءَ، ولِلمَدينةِ لابَتانِ: شَرقيَّةٌ وغَربيَّةٌ، وهي بيْنَهما، والحَرَّةُ الشَّرقيَّةُ الآنَ بها قُباءٌ، وحِصنُ واقِمٍ، الذي سُمِّيتْ به الحَرَّةُ، والحَرَّةُ الغَربيَّةُ هي حَرَّةُ وَبَرةَ، وبها المَسجِدُ المُسَمَّى مَسجِدَ القِبلتَيْنِ. وقد قامَتْ لَجنةٌ رَسميَّةٌ بتَحديدِ مِنطَقةِ الحَرَمِ، وبَنَتْ أمانةُ المَدينةِ المُنوَّرةِ عَلاماتٍ مِعماريَّةً في أماكِنَ عِدَّةٍ، تُبيِّنُ هذه الحُدودَ. ومعنى تَحريمِها: أنْ يأمَنُ فيها كُلُّ شَيءٍ على نَفْسِه، حتى الحَيوانُ، فلا يُصادُ، وحتى الشَّجَرُ، فلا يُقطَعُ إلَّا ما يَزرَعُه الآدَميُّ بنَفْسِه، وألَّا يُحدِثَ فيها إنسانٌ حَدَثًا، بمَعنى: ألَّا يَعمَلَ فيها إنسانٌ عَمَلًا يُخالِفُ دِينَ اللهِ، أو جُرمًا، أو ظُلمًا، أو يَقتَرِفَ حَدًّا. وقد جاء هذا المَعنى مُفسَّرًا في رِوايةٍ أُخرى في الصَّحيحَيْنِ: «المَدينةُ حَرَمٌ مِن كَذَا إلى كَذَا، لا يُقطَعُ شَجَرُها، ولا يُحدَثُ فيها حَدَثٌ، مَن أحْدَثَ حَدَثًا فعليه لَعنةُ اللَّهِ والمَلائِكةِ والنَّاسِ أجمَعينَ»
«بمِثْلِ ما حَرَّمَ إبراهيمُ مَكَّةَ»، وقد حَرَّمَ خَليلُ الرَّحمنِ إبراهيمُ عليه السَّلامُ مَكَّةَ بتَحريمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وهما مُشترِكتانِ في التَّحريمِ، إلَّا في وُجوبِ الجَزاءِ على مَن قَتَلَ صَيدًا في مكَّةَ
ودَعا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِأهلِ المَدينةِ بالبَرَكةِ، فقال: «اللَّهُمَّ بارِكْ لهم في مُدِّهم وصاعِهم»، يُريدُ أنْ يُبارِكَ اللهُ لهم في الطَّعامِ الذي يُكالُ بالصِّيعانِ والأمْدادِ. والصَّاعُ: أربَعةُ أمدادٍ، والمُدُّ: مِقدارُ ما يَملأُ الكَفَّيْنِ. وقد حَصَلتِ البَرَكةُ في الكَيلِ نَفْسِه، بحَيثُ يَكفي المُدُّ فيها ما لا يَكفيه في غَيرِها، وهذا أمْرٌ مَحسوسٌ عِندَ مَن سَكَنَها
وفي الحَديثِ: استِخدامُ اليَتيمِ
وفيه: حَمْلُ الصِّبيانِ في الغَزْوِ
وفيه: إقامةُ وَليمةِ العُرسِ بعْدَ البِناءِ، وخُلُوُّها مِنَ الخُبزِ واللَّحمِ
وفيه: فَضلُ جَبَلِ أُحُدٍ
وفيه: فَضلُ المَدينةِ النَّبَويَّةِ، ودُعاءُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لها
وفيه: خِدمةُ الصَّغيرِ لِلكَبيرِ؛ لِشَرَفٍ في نَفْسِه، أو في قَومِه، أو لِعِلمِه، أو لِصَلاحِه، ونَحوِ ذلك