الحكم بالتشبيه والتمثيل 1
سنن النسائي
أخبرنا محمد بن هاشم، عن الوليد، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس، أنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة النحر، فأتته امرأة من خثعم فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله عز وجل في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا، لا يستطيع أن يركب إلا معترضا، أفأحج عنه؟ قال: «نعم، حجي عنه، فإنه لو كان عليه دين قضيتيه؟»
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعَلِّمُ أصحابَه أحكامَ الدِّينِ بالقَولِ والفِعلِ والأمرِ والنَّهيِ والتوجيهِ، في كُلِّ المواقِفِ والمناسَباتِ التي تستدعي ذلك
وفي هذا الحَديثِ يروي عبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما أنَّ أخاه الفَضْلَ بنَ العَبَّاسِ رضِي اللهُ عنهما كان رَدِيفَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أي راكِبًا خلفَه على الدابَّة- وكان في حَجَّةِ الوداعِ يومَ النَّحْرِ، وهو يومُ العاشِرِ مِن ذي الحِجَّةِ، وكان الفَضْلُ رَجُلًا وَضِيئًا، أي: جَمِيلًا، وَوَقَفَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِلنَّاسِ يجيبُهم عن أسئِلَتِهم، فجاءتِ امرأةٌ وَضِيئَةٌ جميلةٌ مِن خَثْعَمَ- وهي قَبِيلَةٌ يَمَنِيَّةٍ- تَسأَل رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الحَجِّ، وتستفتيه في مسألةٍ من مسائِلِه، فجَعَل الفَضْلُ رضِي اللهُ عنه يَنظُر إلى جَمالِها وحُسنِ صُورتِها، وكانت هي أيضًا تَنظُر إليه، وجَعَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَصرِفُ وَجْهَ الفَضْلِ رضِي اللهُ عنه إلى الشِّقِّ الآخَرِ؛ لِيَكُفَّ عن النَّظرِ إليها، ولِتُقْلِعَ هي أيضًا عن النَّظرِ إليه، ولم يَأمُرْها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصَرْفِ وَجْهِها إلى الشِّقِّ الآخَرِ، وإنْ كانتِ المرأةُ مَمنوعةً مِن النَّظَرِ إلى الرجُلِ أيضًا مِثلَما يُمنَعُ الرجُلُ -لقولِه تعالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]، وقولِه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31]- قيل: لاحتِمالِ أنْ يكونَ نظَرُها للفضْلِ كان عن غَيرِ قصْدٍ؛ لأنَّها إنَّما كانتْ تَنظُرُ جِهةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِمَسألتِها. ويَحتمِلُ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اكْتَفَى بصَرْفِ وَجْهِ الفضْلِ؛ لأنَّ ذلك يَمنَعُ نَظَرَ المرأةِ إلى شَيءٍ مِن وَجْهِ الفضْلِ، فكان في ذلك مَنْعٌ للفضْلِ مِن النَّظَرِ إليها ومَنْعٌ لها مِن النَّظَرِ إليه. ولعلَّها لَمَّا صَرَفَ وَجْهَ الفضْلِ فَهِمَت ذلك، فصَرَفَت وَجْهَها وبَصَرَها عن النَّظَرِ إليه
ثم سَأَلَت النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن مَشروعيَّةِ الحجِّ بدلًا من أَبِيها -قِيل: هو حُصَينُ بنُ عَوفٍ الخَثْعميُّ- الذي فُرِضت عليه الفريضةُ ووجبت عليه، لكِنَّه شَيْخٌ كبِيرٌ لا يَستطيعُ أنْ يَستقِرَّ جِسمُه على الرَّاحِلَةِ، أو رُبَّما لم تَتوفَّرْ فيه شُرُوطُ الحجِّ إلَّا في هذه السِّنِّ المتأخِّرة من عُمرِه التي أَصْبَح فيها عاجزًا ضَعيفَ الجسم مَنْهُوكَ القُوَى، فأجابها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِأَنْ تَحُجَّ عنه؛ لِما رأى مِن حِرْصِها على إيصالِ الخَيرِ والثوابِ لأبيها
ويُشتَرَطُ في النَّائِبِ أنْ يكونَ قد حَجَّ حَجَّةَ الإسلامِ عن نفْسِه أوَّلًا، وإلَّا كانتِ الحجَّةُ عن نفْسِه ولم تُجْزِئْ عن المَنوبِ عنه؛ لحَديثِ أبي داودَ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: «أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَمِعَ رجُلًا يقولُ: لَبَّيكَ عن شُبْرُمةَ، قال: مَن شُبرُمةَ؟ قال: أخٌ لي -أو قريبٌ لي- قال: حَجَجتَ عن نفْسِك؟ قال: لا، قال: حُجَّ عن نفْسِك، ثمَّ حُجَّ عن شُبرمةَ»
وفي الحَديثِ: الاستِنابةُ في حَجِّ الفَريضةِ لعَجْزٍ مَيؤوسٍ مِن زَوالِه
وفيه: بِرُّ الوالدَينِ، والاعتِناءُ بأمرِهِما، والقِيامُ بمِصالِحِهما؛ مِن قَضاءِ دَينٍ، وخِدمةٍ، ونَفَقةٍ، وغيرِ ذلكَ مِن أُمورِ الدِّينِ والدُّنيا
وفيه: أنَّ الاستِطاعةَ تكونُ بالغَيرِ كما تكونُ بالنَّفْسِ
وفيه: تَواضُعُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وفيه: مَنزِلةُ الفَضْلِ بنِ العبَّاسِ رَضيَ اللهُ عنهما مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وفيه: منْعُ النَّظَرِ إلى الأجنبيَّاتِ، وغَضُّ البَصَرِ
وفيه: أنَّ العالِمَ يُغيِّرُ مِن المُنكَرِ ما يُمكِنُه إذا رَآه، وإزالةُ المُنكَرِ باليَدِ لمَن أمكَنَه مِن غَيرِ مَفسَدةٍ زائدةٍ عنِ المُنكَرِ الحاصِلِ