الذؤابة 3
سنن النسائي
أخبرنا إبراهيم بن المستمر العروقي، قال: حدثنا الصلت بن محمد، قال: حدثنا غسان بن الأغر بن حصين النهشلي، قال: حدثني عمي زياد بن الحصين، عن أبيه قال: لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادن مني» فدنا منه، فوضع يده على ذؤابته ثم أجرى يده، وسمت عليه ودعا له
كان النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُقرِئُ أصحابَه القُرآنَ الكريمَ ويُعلِّمُهم مِن فيه من أحكامٍ، وقد تميَّزَت مجموعةٌ من الصَّحابةِ في حفْظِه، منهم: أُبَيُّ بنُ كَعبٍ، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، وغيرُهم، وفي خِلافةِ عُثمانَ رضِيَ اللهُ عنه جُمِعَ القُرآنُ في مُصحفٍ واحدٍ، ثُم نَشرَ رضِيَ اللهُ عنه نُسَخًا من هذا المُصحَفِ في الأمصارِ وأمَرَ بحَرْقِ غيرِه، لكنَّ عبدَ اللهِ بنَ مَسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه كان قد غَضِبَ في أوَّل الأمرِ مِن هذا وأبَى أن يَحرِقَ مُصحَفَه الذي انتُسِخَ بقِراءتِه الخاصَّة الَّتي تلقَّاها عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ وافَق عبدُ اللهِ بعدَ ذلك على جَمْعِ عُثمانَ واتَّبعَ ما أجمعتْ عليه الصَّحابةُ رضِيَ اللهُ عنهم أجمعينَ
وفي هذا الحَديثِ يقولُ التَّابعيُّ أبو وائلٍ سَلمةُ بنُ شَقيقٍ: "خطَبَنا ابنُ مسعودٍ؛ فقال: كيف تأْمُروني أقرَأَ على قِراءةِ زيدِ بنِ ثابتٍ؟!" وهذا إنكارٌ منِ ابنِ مسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه على مَن يأمُرُه بترْكِ قِراءتِه، ورجُوعِه إلى قِراءةِ زيدٍ، مع أنَّه سابِقٌ له إلى حِفْظِ القُرآنِ، وإلى أخْذِه عن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مُوضِّحًا ذلك بقولِه: "بعدَما قرأْتُ من فِي رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِضعًا وسبعينَ سُورةً"، والبِضْعُ كِنايةٌ عن العَددِ من الثَّلاثةِ إلى التِّسعةِ، وقيل: من الأربعةِ إلى التِّسعةِ، "وإنَّ زيدًا مع الغِلمانِ، له ذُؤابتانِ"، أي": له خُصلتانِ أو ضَفيرتانِ من الشَّعرِ وهو غُلامٌ صَغيرُ السِّنِّ، والمُرادُ: أنَّ ابنَ مسعودٍ سابِقٌ في أخْذِ القُرآنِ مُشافهةً من فَمِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو سابِقٌ في الإسلامِ وفي الحِفظِ قبلَ زيدٍ، فشَقَّ عليه أنْ يترُكَ قِراءةً قرَأَها على رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ويقرَأَ بما قرَأَه زيدٌ أو غيرُه؛ فتمسَّكَ بمُصحَفِه وقراءتِه
وقد أخرَجَ البُخاريُّ، قال عبدُ اللهِ رضِيَ اللهُ عنه: "واللهِ الَّذي لا إلهَ غيرُه، ما أُنزِلَت سُورةٌ من كِتابِ اللهِ، إلَّا أنا أعلَمُ أين أُنزِلَت، ولا أُنزِلَت آيةٌ من كتابِ اللهِ، إلَّا أنا أعلَمُ فيمَا أُنزِلَت، ولو أعلَمُ أحدًا أعلَمَ منِّي بكتابِ اللهِ، تبلُغُه الإبلُ لركِبْتُ إليه"؛ فلذلك تمسَّكَ بموقفِه، ولكنْ لم يكُنْ هذا اعتراضًا منه، بل كان اجتهادًا، ولكنَّ الصَّحابةَ رضِيَ اللهُ عنهم لم يُوافِقُوه عليه، ولعلَّه خَفِيَ عليه الوجْهُ الَّذي ظهَرَ لمُعْظَمِ الصَّحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم من المصلحةِ في حِفْظِ القُرآنِ عن الاختلافِ المُخِلِّ به، والتَّغييرِ بالزِّيادةِ والنُّقصانِ، وكان الصَّحابةُ رضِيَ اللهُ عنهم لمَّا عَزَموا على كِتابةِ المُصحفِ بلُغةِ قُريشٍ، عيَّنوا لذلك أربعةً لم يكُنْ منهم ابنُ مسعودٍ، مع أنَّه أسبَقُهم لحِفْظِ القُرآنِ، ومِن أعلَمِهم به، كما شَهِدوا له بذلك، غيرَ أنَّه رضِيَ اللهُ عنه كان هُذليًّا، وكانتْ قِراءتُه على لُغةِ هُذيلٍ، وبينها وبين لُغةِ قُريشٍ تباينٌ عَظيمٌ؛ فلذلك لم يُدْخِلوه معهم
وفي الحديثِ: بيانُ مَكانةِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ في العِلْمِ، حيثُ كان من أقدَمِ الصَّحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم أخذًا للقُرآنِ من فِي رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان مِن أعلَمِهم به