النية في الصيام والاختلاف 1
سنن النسائي
أخبرنا عمرو بن منصور، قال: حدثنا عاصم بن يوسف، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن طلحة بن يحيى بن طلحة، عن مجاهد، عن عائشة، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: «هل عندكم شيء؟»، فقلت: لا، قال: «فإني صائم»، ثم مر بي بعد ذلك اليوم وقد أهدي إلي حيس فخبأت له منه، وكان يحب الحيس، قالت: يا رسول الله، إنه أهدي لنا حيس فخبأت لك منه، قال: «أدنيه أما إني قد أصبحت وأنا صائم فأكل منه»، ثم قال: «إنما مثل صوم المتطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة، فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها»
هذا الحَديثُ يُوضِّحُ جانبًا مِن هَديِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في عَقدِه الصِّيامَ إذا لم يَجِدْ طعامًا، وَفي إفطارِه إذا وَجَدَ الطَّعامَ، وهذا مِن سَماحةِ الإسلامِ ويُسرِه وعَدمِ تَشدُّدِه؛ فَقدْ رَوَتْ أمُّ المُؤمنينَ عائشةُ رَضِي اللهُ عنها أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم سَألها ذاتَ يومٍ وهو في بيتِها صباحًا، كما في رِوايةٍ للنَّسائيِّ: «يا عائشةُ، هلْ عندَكم شَيءٌ؟» يَقصِدُ طَعامًا يَأكُلُه، كما في لَفظِ أبي داودَ، فأَجابتْه بأنَّه لا طَعامَ عِندَها، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عاقِدًا الصَّومَ: «فإِنِّي صائمٌ»، أي: فإنِّي صائمٌ ومُمسِكٌ عنِ الطَّعامِ، وهذا يدُلُّ على مَشروعيَّةِ عقْدِ نِيَّةِ صِيامِ النَّفلِ في النَّهارِ، وهذا لمَن لم يَأكُلْ أو يَشرَبْ شيئًا منذُ أذانِ الصُّبحِ
ثمَّ أخبَرَت أُمُّ المؤمنينَ عائشةُ رَضِي اللهُ عنها أنَّه بعْدَ أنْ خَرَجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم صائمًا، أُهدِيتْ لهمْ هَديَّةٌ مِن الطَّعامِ -والهَديَّةُ يَأكُلُ مِنها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، بخلافِ الصَّدقةِ؛ فإنَّ اللهَ قدْ حرَّم عليه أخْذَ الصَّدقةِ- أو جاءهم مَن يَزورُهم ومَعه هَديَّةٌ مِن طَعامٍ
فلمَّا رَجعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إلى بَيتِ أُمِّ المُؤمنينَ عائشةَ رَضِي اللهُ عنها أَخبرتْه بذلكَ، وأنَّها أخْفَت له جُزءًا مِن الطَّعامِ ليَأكُلَه؛ لِعِلْمِها بأنَّه كان يُريدُ أن يَأكُلَ، فسَأَلَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عنِ نوْعِ الطَّعامِ، فقالتْ: «حَيسٌ»، وهوَ الطَّعامُ المَصنوعُ مِن خلْطِ السَّمنِ بالتَّمرِ، وقيل: يُضافُ إليه الدَّقيقُ أو اللَّبَنُ المُجفَّفُ، فأمَرَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنْ تَأتِيَه به حتَّى يَأكُلَ منه، فأَكَلَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم مِنه بعْدَ أنْ كانَ عاقدًا الصَّومَ؛ ولِذلكَ قال بعْدَ أنْ أَكلَ: «قَد كُنتُ أَصبحتُ صائمًا»، وهذا الصَّومُ كانَ صَومَ تَطوُّعٍ، وهذا تَعليمٌ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم للمُسلِمينَ لِيقتَدوا بهِ
قالَ طَلحةُ بنُ يَحيى الرَّاوي عن عائشةَ بنتِ طَلْحةَ: فحَدَّثتُ مُجاهدَ بنَ جَبرٍ المكِّيَّ الإمامَ الحُجَّةَ بهذا الحَديثِ الَّذي حَّدَثَته عائشةُ بنتُ طَلحةَ، فَقال: «ذاكَ بمَنزلةِ الرَّجلِ يُخرِجُ الصَّدقةَ مِن مالِه؛ فإنْ شاءَ أَمضاها، وإِن شاءَ أَمسكَها»، أي: فَعَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ذلكَ؛ لأنَّ لَه حُرِّيَّةَ الاختِيارِ في التَّطوُّعِ، وهوَ بمَنزلةِ الرَّجلِ الَّذي يَنْوي أنْ يُخرِجَ الصَّدقةَ مِن مالِه؛ فإنْ شاءَ أَنفذَها وأَعطاها لِمن كانَ يَنوي أنْ يُعطيَها لَه، وَإن أَرادَ أَمسَكَها ومَنَعها وَلم يُخرِجْها
وَفي الحَديثِ: إفطارُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في صِيامِ التَّطوُّعِ في أيِّ وَقتٍ مِن اليَومِ
وفيه: ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم مِن التَّقلُّلِ مِن الدُّنيا؛ زُهدًا في مَلذَّاتِ الدُّنيا الفانيةِ، وإيثارًا لِما عندَ اللهِ مِن نَعيمِ الآخرةِ
وفيه: أنَّ مَن أخرَجَ شيئًا مِن مالِه للتَّصدُّقِ به، ثمَّ بَدا له ألَّا يَتصدَّقَ؛ فله ذلك