باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة
بطاقات دعوية
عن عبدِ الله (بن عمر) قالَ: لَمَّا اشتَدَّ برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وجعُه؛ قيلَ له في الصلاةِ؟ فقالَ:
"مُرُوا أبا بكرٍ فليصَلِّ بالناسِ"، قالت عائشة: إنَّ أبا بكرٍ رجُلٌ رقيقٌ إذا قرَأ غلَبَه البُكاءُ، قالَ: مُرُوه فَيُصَلي، فعاودَتْه، قالَ:
"مرُوهُ فيصَلي، إنكُنَّ صَواحِبُ يوسُفَ".
صَلاةُ الجَماعةِ أمْرُها عَظيمٌ، اهتَمَّ بها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اهتِمامًا كبيرًا، وكذا الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم أجمعينَ، ولم يَتخلَّفْ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنها، ولم يُهمِلْها أبدًا، حتَّى عِندَما اشتدَّ المرَضُ عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنابَ عنه مَن يُصلِّي بالنَّاسِ، فتَروي عائشةُ أُمُّ المؤمنينَ رَضيَ اللهُ عنها أنَّه لَمَّا اشتدَّ مرَضُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَستطِعِ الخُروجَ لِلجَماعةِ، فجاءَه بلالٌ رَضيَ اللهُ عنه يُعلِمُه بدُخولِ وقتِ الصَّلاةِ، فأمَرَهمُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يَأمُروا أبا بكرٍ أنْ يُصلِّيَ هو بالنَّاسِ إمامًا، فخافَتْ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنْ يَتشاءَمَ النَّاسُ مِن أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه؛ لأنَّه حَلَّ محَلَّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأرادَتْ أنْ تَدفَعَ عنه ذلك، فقالتْ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ أبا بكرٍ رجُلٌ كثيرُ البُكاءِ والحزنِ في الصَّلاةِ، فلو قامَ لِلإمامةِ لنْ يُسمِعَ النَّاسَ قراءتَه مِن كثرةِ البكاءِ، وكان أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه كما قالتْ حقيقةً، فلمْ يَلتفِتِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِقولهِا، وكرَّرَ قولَه: «مُرُوا أبا بكرٍ يُصلِّي بِالنَّاسِ»، فقالت عائشةُ لِحَفْصةَ رَضيَ اللهُ عنهما: قُولي للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ أبا بَكرٍ رجُلٌ أَسِيفٌ، وإنَّه متى ما يَقُمْ مَقامَك لا يُسمِعُ الناسَ، فلو أمَرْتَ عُمرَ يقومُ هو بالنَّاسِ، فلمَّا سمِع النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك قال: «إنَّكنَّ لَأنْتُنَّ صَواحِبُ يُوسفَ»، والمرادُ أنهنَّ مِثلُ صواحِبِ يوسفَ في إظهارِ خِلافِ ما يُبطِنَّ، وكثرةِ إلحاحِهنَّ في طلَبِ ما يُرِدْنَه ويَمِلْنَ إليه، ثمَّ كرَّرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمْرَه لِأبي بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يُصلِّيَ بِالنَّاسِ، فلمَّا جاءَ أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه وافتَتَح الصَّلاةَ شَعَر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في نفْسِه بخِفَّةٍ، فقامَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَمشي بيْنَ رجُلَينِ مُستنِدًا عليهما، وهُما: العبَّاسُ بنُ عبدِ المطَّلِبِ وعليُّ بنُ أبي طالبٍ رضيَ الله تعالى عنهما، ورِجْلاهُ تخُطَّانِ في الأرضِ، يعني: تَعمَلان مِثلَ الخَطِّ في الأرضِ؛ لِثقَلِه ومرضِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا أحسَّ أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه بِالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أرادَ أن يَتأخَّرَ، فأشارَ إليه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يظَلَّ في مكانِه، وجلَسَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على يَسارِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، وكان أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه يُصلِّي قائمًا يَقتدي بِصلاةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو جالسٌ، ويَقتدي النَّاسُ بِصلاةِ أبي بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه وهو قائمٌ، فكان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو الإمامَ، وكان أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه مؤتَمًّا به، وكان يُسمِعُهمُ التَّكبيرَ؛ لضَعفِ صَوتِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حينَئذٍ، فكان اقتداؤُهم بصَوتِ أبي بكرٍ، وكان مُبَلِّغًا عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولم يكُنْ إمامًا للنَّاسِ، فاقتِداءُ أبي بكرٍ والنَّاسِ كلِّهم إنَّما كان بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنَّما كان أبو بكرٍ يُبلِّغُ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ التَّكبيرَ؛ ليَتمَكَّنوا مِنَ الاقتِداءِ. وقيل: بل كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إمامًا لأبي بكرٍ، وكان أبو بكرٍ إمامًا للنَّاسِ الَّذين وراءَه، فكانت تلكَ الصَّلاةُ بإمامَينِ.
وفي هذا الحَديثِ: مشروعيَّةُ الأخذُ بالشِّدَّةِ لِمَن جازتْ له الرُّخْصةُ.
وفيه: مشروعيَّةُ الصَّلاةِ جالسًا لِمَن لا يَقْوَى على القِيامِ.
وفيه: الإشارةُ إلى تعظيمِ الصَّلاةِ في الجماعةِ.وفيه: دَلالةٌ علي أنَّ أبا بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه أفضَلُ النَّاسِ بعْدَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأَوْلاهم بخِلافتِه، وعلى فضيلةِ عُمرَ بنِ الخطَّابِ بعْدَه.
وفيه: مشروعيَّةُ مُراجَعةُ المَفضولِ للفاضِلِ.
وفيه: الأدبُ مع الكَبيرِ، حيثُ أراد أبو بكرٍ التأخُّرَ عن الصَّفِّ لِمَقامِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.