باب أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح؟ 1
بطاقات دعوية
عن هشام عن أبيه (142) قال: لما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، فبلغ ذلك قريشا؛ خرج أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء؛ يلتمسون الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه؟ لكأنها نيران عرفة. فقال بديل بن ورقاء: نيران بنى عمرو. فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك. فرآهم ناس من حرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأدركوهم فأخذوهم، فأتوا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم أبو سفيان , فلما سار؛ قال للعباس: احبس أبا سفيان عند حطم الخيل (143) حتى ينظر إلى المسلمين , فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كتيبة كتيبة على أبى سفيان، فمرت كتيبة , قال: يا عباس! من هذه؟ قال: هذه غفار. قال: ما لي ولغفار (144). ثم مرت جهينة، قال مثل ذلك، ثم مرت سعد بن هذيم، فقال مثل ذلك، ومرت سليم، فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة؛ معه الراية. فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة (145)، اليوم تستحل الكعبة. فقال أبو سفيان: يا عباس! حبذا يوم الذمار. ثم جاءت كتيبة، وهى أقل الكتائب، فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وراية النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الزبير بن العوام، فلما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبى سفيان؛ قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: «ما قال؟». قال: قال كذا وكذا. فقال: «كذب سعد؛ ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة»، قال: وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تركز رايته بالحجون.
قال عروة: وأخبرنى نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: يا أبا عبد الله! ها هنا أمرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تركز الراية؟ قال: وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة؛ من كداء، ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - من كدى، فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان؛ حبيش بن الأشعر, وكرز بن جابر الفهرى.
فَتْحُ مكَّةَ كان فَتحًا عَظيمًا أعزَّ اللهُ به الإسْلامَ والمُسلِمينَ، وكان في رَمضانَ مِن العامِ الثَّامِنِ مِن الهِجْرةِ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ التَّابِعيُّ عُرْوةُ بنُ الزُّبَيرِ عن بعضِ ما حدَثَ في غَزْوةِ الفَتحِ، وهو أنَّهُ لَمَّا سارَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عامَ الفَتحِ نحْوَ مكَّةَ، بلَغَ قُرَيشًا ذلك المَسيرُ، فخرَجَ أبو سُفْيانَ بنُ حَربٍ، وحَكيمُ بنُ حِزامٍ، وبُدَيلُ بنُ وَرْقاءَ؛ يتَحقَّقونَ مِن الخَبرِ، وهؤلاء مِن زُعَماءِ قُرَيشٍ وسادَتِها، فساروا حتَّى أتَوْا «مرَّ الظَّهْرانِ»، وهوَ وادٍ كَبيرٌ من أوْديةِ تِهامةَ يقَعُ في مِنطَقةِ مكَّةَ المُكرَّمةِ، يَبلُغُ طولُه 210 كم، ويَبدأُ بالقُربِ مِن مَدينةِ الطَّائفِ، حيث أعالي جِبالِ السَّراةِ، ليَنتَهيَ في المِنطَقةِ المَوْجودةِ بيْنَ كلٍّ مِن مَدينةِ مكَّةَ ومَدينةِ جُدَّةَ، والَّتي تُعرَفُ باسْمِ بَلدةِ بَحْرةَ، فوجدوا نيرانًا كأنَّها النِّيرانُ الَّتي يُشعِلُها الحُجَّاجُ في لَيلةِ عَرَفةَ؛ مِن كَثرةِ ما يَرَون، فقال بُدَيلُ بنُ وَرْقاءَ: هذه نِيرانُ بَني عَمْرٍو، يُريدُ بهم خُزاعةَ، وهم قَبيلةٌ منَ العرَبِ، فقال أبو سُفْيانَ: إنَّهم أقَلُّ مِن ذلك، وهذا مِن تَباحُثِهم حولَ هذا العدَدِ مِن النَّاسِ ومُرادِهم مِن حَربٍ وغيرِها، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا نزَلَ مرَّ الظَّهْرانِ أمَرَ أصْحابَه أنْ يُوقِدَ كلُّ واحدٍ منهم نارًا، وكان عدَدُهم عَشَرةَ آلافٍ.
وبيْنَما أبو سُفْيانَ ومَن معَه على حالِهم هذا، إذ رَآهمْ ناسٌ مِن حَرسِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان منهم عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، فأخَذوهم إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأسلَمَ أبو سُفيانَ، فلمَّا سارَ جيشُ المُسلِمينَ متَّجِهينَ إلى مكَّةَ، أرادَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُدخِلَ الرَّهْبةَ في قَلبِ أبي سُفيانَ برُؤْيةِ قُوَّةِ المُسلِمينَ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لعمِّه العبَّاسِ: احبِسْ أبا سُفيانَ عندَ حَطْمِ الخَيلِ، أي: عندَ مَضيقٍ تَزدَحِمُ فيه الخَيلُ؛ وذلك حتَّى يَنظُرَ المُسلِمينَ، ففعَلَ العبَّاسُ رَضيَ اللهُ عنه، وأوْقَفَه في المَكانِ الَّذي حدَّدَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فجعَلَتِ القَبائلُ الَّتي خرَجَتْ معَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تمُرُّ كَتيبةً تَلي كَتيبةً على أبي سُفيانَ، فيَراهُم مُنظَّمينَ، مُتآلِفينَ، والكَتيبةُ: هي القِطْعةُ منَ الجَيشِ، فمرَّتْ به كَتيبةٌ، فقال: يا عبَّاسُ، مَن هذه؟ فقال العبَّاسُ: هذه قَبيلةُ غِفارَ، فقال: «ما لي ولغِفارَ؟!» أي: ليس بيْني وبيْنهم حَربٌ، ثمَّ مرَّتْ قَبائلُ جُهَيْنةَ، وسَعدِ بنِ هُذَيمٍ، وسُلَيمٍ، فقال أبو سُفْيانَ مِثلَ القولِ الأوَّلِ: ما لي ولَهُمْ؟! حتَّى مرَّتْ كَتيبةٌ لم يَرَ أبو سُفيانَ مِثلَها، فقال: يا عبَّاسُ، مَن هذه القَبيلةُ؟ فقال: هؤلاء همُ الأنْصارُ -وهم أهلُ المَدينةِ-، وعليهم سيِّدُهم سَعدُ بنُ عُبادةَ رَضيَ اللهُ عنه، ومعَه الرَّايةُ، وهي العلَمُ الَّذي يَجتَمِعونَ تَحتَه، فلمَّا رَآه سَعدُ بنُ عُبادةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: «يا أبا سُفيانَ، اليومَ يومُ المَلْحَمةِ»، أي: يومُ المَقْتَلةِ العُظْمى، «اليومَ تُستحَلُّ الكَعبةُ»، أي: يَحِلُّ لنا القِتالُ عندَ الكَعبةِ؛ انتِقامًا لِمَا صَنَعَه الكُفَّارُ بالمُسلِمينَ، فلمَّا سَمِعَ أبو سُفيانَ هذهِ الكَلِماتِ مِن سَعدٍ، أثَّرَتْ في نَفْسِه، فأثارَتْ فيهِ الحَمِيَّةَ، فقال: «يا عبَّاسُ، حبَّذا يومُ الذِّمارِ»، أي: يومُ الهَلاكِ، و«حبَّذا» كَلمةٌ تُقالُ للمَدحِ، والمَعنى: ليتَ لي قُوَّةً فأحْميَ قَوْمي وأمنَعَهم، وقيلَ: المرادُ أنَّ هذا يومٌ يَلزَمُكَ فيه حِفْظي وحِمايَتي مِن أنْ يَنالَني مَكْروهٌ. ثمَّ جاءَتْ بعْدَ ذلك كَتيبةٌ هي أقلُّ الكَتائبِ عدَدًا، وكان فيها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصْحابُه منَ المُهاجِرينَ، فكانت أجَلَّ الكَتائِبِ وأعظَمَها، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ أَعْطى رايتَهُ للزُّبَيرِ بنِ العوَّامِ رَضيَ اللهُ عنه، فلمَّا مرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأبي سُفيانَ، قال له أبو سُفيانَ: ألمْ تَعلَمْ ما قال سَعدُ بنُ عُبادةَ؟ ولم يَكُنِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَلِمَ ما قال، فذكَرَ له أبو سُفيانَ أنَّ سَعدَ بنَ عُبادةَ رَضيَ اللهُ عنه قال: «اليومَ يَوْمُ المَلْحَمةِ، اليومَ تُستَحَلُّ الكَعْبةُ»، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «كذَبَ سَعدٌ»، أي: أخْطأَ فيما قال، والعرَبُ يقولونَ: «كذَبَ» لمَن أخْطَأَ، «ولكنْ هذا يومٌ يُعظِّمُ اللهُ فيهِ الكَعبةَ»، أي: بإظْهارِ الإسْلامِ حَولَها، وأذانِ بِلالٍ على ظَهرِها، وإزالةِ ما كان فيها مِن الأصْنامِ، ومَحْوِ الصُّوَرِ الَّتي كانت فيها، وغيرِ ذلك. «ويومٌ تُكْسى فيه الكَعبةُ»، قيلَ: لأنَّهم كانوا يَكْسونَها في مِثلِ ذلك اليومِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَأْتِ لاحْتِلالِها، أو الانْتِقامِ مِن أهْلِها، وإنَّما غَرضُه نُصْرةُ دِينِ اللهِ، وعِزَّةُ أهلِها بالإسْلامِ.
ثمَّ أمَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الزُّبَيرَ بنَ العوَّامِ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يضَعَ رايَتَه بالحَجُونِ، وهو مَكانٌ بأعْلى مكَّةَ قَريبٌ مِن مَقبَرةِ أهلِ مكَّةَ إلى الشَّمالِ الشَّرقيِّ مِن مكَّةَ على مُفتَرَقِ الطَّريقِ المؤَدِّي إلى كلٍّ مِن المَسجِدِ الحَرامِ، وجبَلِ الحَجونِ، ثمَّ أمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خالدَ بنَ الوَليدِ أنْ يَدخُلَ مِن أعْلى مكَّةَ مِن كَداءٍ عندَ المُحَصَّبِ، وهي الَّتي يُنزَلُ منها إلى المَعْلاةِ مَقبَرةِ أهلِ مكَّةَ بجَنْبِ المُحَصَّبِ، وهي الَّتي يُقالُ لها: الحَجونُ، وكانت صَعْبةَ المُرْتَقى، ثمَّ سُهِّلَت بعْدَ ذلك، ودخَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أسفَلِها مِن كُدَا الَّتي بأسفَلِ مكَّةَ، وكان اسمُها أيضًا الثَّنيَّةَ السُّفْلى، وقد سُهِّلَتِ الثَّنيَّةُ، وهي الآنَ في الشارعِ العامِّ المُوصِّلِ إلى «جَرْولَ». وقد ورَدَ في الصَّحيحَينِ مِن حَديثِ أمِّ المؤمِنينَ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها «أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دخَلَ عامَ الفَتحِ مِن كَدَاءٍ مِن أَعْلَى مكَّةَ». وقيلَ: الحِكْمةُ من ذلك ومُناسَبةُ الدُّخولِ مِن جِهةِ العُلوِّ: لِما فيه مِن تَعظيمِ المَكانِ، وعَكسُه الإشارةُ إلى فِراقِه، وقيلَ: لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خرَجَ منها مُختَفيًا في الهِجْرةِ، فأرادَ أنْ يَدخُلَها جاهرًا عالِيًا، وقيلَ: لأنَّ مَن جاء مِن تلك الجِهةِ كان مُستَقبِلًا للبَيتِ.
وقدْ قاوَمَ خالدَ بنَ الوَليدِ رَضيَ اللهُ عنه بعضُ المُشرِكينَ، فهزَمَهم خالدٌ، وقُتِلَ مِن أصْحابِهِ رَجلانِ همْ: حُبَيْشُ بنُ الأشْعَرِ رَضيَ اللهُ عنه، وهو أخو أمِّ مَعبَدٍ الَّتي مرَّ بها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُهاجِرًا، وكُرْزُ بنُ جابرٍ الفِهْريُّ رَضيَ اللهُ عنه، وكان مِن رُؤَساءِ المُشرِكينَ، وهو الَّذي أغارَ على سَرحِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في غَزْوةِ بَدرٍ الأُولى، ثمَّ أسلَمَ قَديمًا، وبعَثَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في طلَبِ العُرَنيِّينَ.
وكان قدْ بعَثَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَعدَ بنَ عُبادةَ رَضيَ اللهُ عنه في كَتيبةِ الأنْصارِ في مُقدِّمةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأمَرَهم أنْ يَكُفُّوا أيديَهم، ولا يُقاتِلوا إلَّا مَن قاتَلَهم.
وفي الحَديثِ: العَفوُ عندَ المَقدِرةِ، وحِرصُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على هِدايةِ النَّاسِ، وبُعدُ أخْلاقِه عن الانتِقامِ.
وفيه: بَيانُ مَكانةِ مكَّةَ والكَعبةِ، وأنَّهما لا يُسْتَباحانِ.
وفيه: أنَّ فَتْحَ مكَّةَ لم يكُنْ حَربًا انْتِقاميَّةً، وإنَّما كان يومًا مُبارَكًا، تُعظَّمُ فيه الكَعبةُ، وتُعَزُّ فيه قُرَيشٌ بالإسْلامِ.