باب إذا أسلم قوم في دار الحرب، ولهم مال وأرضون؛ فهي لهم
بطاقات دعوية
عن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى (104)، فقال: يا هني! اضمم جناحك عن المسلمين، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصريمة (105)، ورب الغنيمة، وإياي ونعم ابن عوف، ونعم ابن عفان، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة، ورب الغنيمة؛ إن تهلك ماشيتهما يأتني ببنيه، فيقول: يا أمير المؤمنين! يا أمير المؤمنين! أفتاركهم أنا لا أبا لك؟! فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق، وايم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم؛ إنها لبلادهم، فقاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده، لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله؛ ما حميت عليهم من بلادهم شبرا
كان عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه نِعْمَ الإمامُ العادِلُ، ولا يَزالُ يُضرَبُ به المَثَلُ في العَدلِ بيْنَ الرَّعيَّةِ، وتَقوَى اللهِ عزَّ وجلَّ فيما استأْمَنَه مِن أموالِ المُسلِمينَ ومَصالِحِهمُ الدِّينيَّةِ والدُّنيَويَّةِ.
وفي هذا الحَديثِ يَروي التَّابِعيُّ أسلَمُ مَوْلى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ أنَّ عُمَرَ عَيَّنَ مَوْلًى له -اسمُه هُنَيٌّ- على الحِمَى، وهو مَوضعٌ يُعَيِّنُه الإمامُ لِأجْلِ نَعَمِ الصَّدَقةِ، وهي الإبِلُ والخَيلُ وغَيرُها، ممَّا يَرجِعُ مِلْكُه إلى بَيتِ مالِ المُسلِمينَ، ويُمنَعُ عامَّةُ الناسِ مِنَ الرَّعيِ فيه، وكان عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه قد حَمَى هذا المَرْعَى، فلا يَرعى فيه إلَّا الخَيلُ التي يُعِدُّها لِلجِهادِ، فقال له: يا هُنَيُّ، اضمُمْ جَناحَكَ عنِ المُسلِمينَ، فاكفُفْ يَدَكَ عن ظُلمِهم، واتَّقِ دَعوةَ المَظلومِ؛ وذلك لِأنَّها ليس بيْنَها وبيْنَ اللهِ حِجابٌ أو مانِعٌ؛ فإنَّها لا تُحجَبُ عنِ اللهِ تَعالى، وأمَرَه أنْ يُدخِلَ في الحِمَى والمَرعَى صاحِبَ الصُّرَيمةِ، وهي القِطعةُ القَليلةُ مِنَ الإبِلِ بقَدْرِ الثَّلاثينَ، وصاحِبَ الغُنَيمةِ، وهي تَصغيرُ الغَنَمِ، والمُرادُ: القَليلُ منهما، وحَذَّرَه أنْ يُقدِّمَ إبِلَ عَبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ وعُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضيَ اللهُ عنهما على إبِلِ غَيرِهما، وخَصَّهما بالذِّكرِ على طَريقِ المِثالِ؛ لِكَثرةِ مِلْكِهما لبَهيمةِ الأنعامِ؛ لِأنَّهما كانا مِن مَيَاسيرِ الصَّحابةِ، ولم يُرِدْ بذلك مَنعَهما ألبتَّةَ، وإنَّما أراد أنَّه إذا لم يَسَعِ المَرعَى إلَّا أنعامَ أحَدِ الفَريقَيْنِ، فأصحابُ الأنعامِ القليلةِ أَولى؛ وذلك لِأنَّ هذه الإبِلَ إنْ مُنِعَتْ مِن دُخولِ المَرْعى حيث الكَلَأُ والعُشبُ، هَلَكتْ، وإذا هَلَكتْ إبِلُ ابنِ عَوفٍ وابنِ عَفَّانَ وأمثالِهما، فإنَّهم سَوفَ يَرجِعونَ إلى عِوَضِ ذلك مِن أموالِهما مِن نَخلٍ وزَرعٍ وغَيرِهما، أمَّا المُقِلُّونَ والفُقَراءُ فسَوف يأتونَه بأولادِهم قائِلينَ له: نحن فُقَراءُ، مُحتاجونَ، وهو لنْ يَترُكَهم كذلك، فسَيحْتاجُ إلى تَعويضِهم، بصَرفِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ لهم؛ لِسَدِّ حاجَتِهم وفَقرِهم، والماءُ والعُشبُ أيسَرُ كَثيرًا مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، وقَولُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه لِمَوْلاه: «لا أبَا لك» ظاهِرُه الدُّعاءُ عليه، لكِنَّه لا يُرادُ به حَقيقةُ الدُّعاءِ، ولكِنَّه قَولٌ جَرَى على ألسِنَتِهم لِجَذبِ الانتِباهِ والتَّحفيزِ، ويُقسِمُ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه بقَولِه: «وايمُ اللهِ»، أي: وأيمانِ اللهِ، إنَّ أربابَ المَواشي القَليلةِ مِن أهلِ المَدينةِ وقُراها يَعتقِدونَ أنَّه ظَلَمَهم؛ لِأنَّ هذه الأراضيَ لِبِلادِهم، قاتَلوا عليها في الجاهِليَّةِ، وأسلَموا عليها في الإسلامِ، فكانتْ أموالَهم؛ لِأنَّهم دَخَلوا في الإسلامِ عَفْوًا وصُلحًا بدُونِ حَربٍ، وهذا بخِلافِ مَن أسلَمَ مِن أهلِ الحَربِ بعْدَ قِتالٍ؛ فإنَّ أرضَه فَيْءٌ لِلمُسلِمينَ؛ لِأنَّهم غُلِبوا على بِلادِهم، كما غُلِبوا على أموالِهم، بخِلافِ أهلِ الصُّلحِ في ذلك، وإنَّما ساغَ لِعُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه ذلك؛ لِأنَّ الحِمَى كان مَواتًا، فحَماهُ لِنَعَمِ الصَّدَقةِ ومَصلَحةِ المُسلِمينَ.
وقَولُ عُمَرَ: «والذي نَفْسي بيَدِه، لولا المالُ الذي أحمِلُ عليه في سَبيلِ اللهِ» مِنَ الإبِلِ والخَيلِ التي كان يَحمِلُ عليها مَن لا يَجِدُ ما يَركَبُ في الجِهادِ؛ ما حَمَيتُ عليهم مِن بِلادِهم شِبْرًا، فلم أجعَلْ مِنطَقةً مَحميَّةً يُمنَعونَ مِن دُخولِها.
وفي الحَديثِ: بَيانُ ما كان عليه عُمَرُ مِنَ القُوَّةِ وجَوْدةِ النَّظَرِ والشَّفَقةِ على المُسلِمينَ.
وفيه: التَّخويفُ مِن دَعوةِ المَظلومِ.
وفيه: مِنَ الفِقهِ ألَّا يَتخَصَّصَ بالكَلَأِ والمَرعى الغَنيُّ دُونَ الفَقيرِ.
وفيه: أنَّ الإمامَ يَنظُرُ الأصلَحَ والأوفَرَ فيَفعَلُه.
وفيه: أنَّ الإمامَ يُقدِّمُ مُراعاةَ الفُقَراءِ وأحوالِهم على مُراعاةِ الأغنياءِ.