باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة

بطاقات دعوية

باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة
حديث أنس، قال: قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على رعل وذكوان

لقد جاهد الصحابة رضي الله عنهم في الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حق الجهاد؛ لإعلاء كلمته، وتنفيذا لأمره، ومجاهدة لأعدائه، فأوذوا وصبروا لله ابتغاء ما عند الله سبحانه وتعالى، ففازوا بخيري الدنيا والآخرة
وفي هذا الحديث يحكي أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خاله حرام بن ملحان -فأخته أم سليم بنت ملحان، وهي أم أنس بن مالك رضي الله عنهم- في سبعين راكبا إلى بني عامر بن صعصعة من أهل نجد؛ ليدعوهم إلى الإسلام، وفي رواية أخرى في البخاري: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رعل، وذكوان، وعصية، وبنو لحيان، فزعموا أنهم قد أسلموا، واستمدوه على قومهم، فأمدهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين من الأنصار، قال أنس: كنا نسميهم القراء، يحطبون بالنهار، ويصلون بالليل»، وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل قد خير النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه بين ثلاث خصال؛ الأولى: أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم أهل السهل، أي: سكان البادية، ولعامر بن الطفيل أهل المدر، وهم أهل المدن، والثانية: أن يكون خليفة للنبي صلى الله عليه وسلم من بعده، والثالثة: أن يغزو ويحارب النبي صلى الله عليه وسلم بأهل قبيلة غطفان «بألف وألف»، أي: بألف أشقر، وألف شقراء، كما جاء في مسند أحمد، والشقرة من الألوان: حمرة تعلو بياضا في الإنسان، وحمرة صافية في الخيل، فالمراد بألف من ذكور الخيل وألف من إناثها، ويحتمل أنه يعود على الإبل والنوق، وهو كناية عن كثرة عدد محاربيه، وشدة بأسهم وقوتهم
فأصيب عامر بالطاعون في بيت أم فلان، وهي سلول بنت شيبان، وزوجها مرة بن صعصعة، أخو عامر بن صعصعة، فظهر في أصل أذنه غدة كالغدة التي تطلع على البكر، وهو الفتي من الإبل، والغدة: قطعة صلبة يركبها الشحم تكون في العنق وغيره، وجعل عامر ينعى نفسه في مرضه هذا ويقول: «غدة كغدة البكر، في بيت امرأة من آل فلان!» أي: أتقتلني، أو أتصيبني غدة كغدة البكر! فطلب عامر أن يأتوه بفرسه، فجاؤوه به فركبه، فمات على ظهر فرسه، وكان موته بعد قتله السبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن قدم ذكره هنا.
فلما ذهب السبعون الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم، انطلق حرام أخو أم سليم رضي الله عنهما، وانطلق معه رجلان منهم رجل أعرج، وليس العرج من وصف حرام بن ملحان، فلم يكن أعرج، وهذا من سهو النساخ، وقد بينت رواية البيهقي ذلك، ففيها: «فانطلق حرام ورجلان معه: رجل أعرج، ورجل من بني فلان»، قيل: الرجل الأعرج اسمه: كعب بن زيد، وهو من بني دينار بن النجار، والرجل الآخر قيل اسمه: المنذر بن محمد بن عقبة الخزرجي
فقال حرام للرجلين اللذين معه: كونا قريبا حتى آتي بني عامر، فإن آمنوني كنتم قريبا مني، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم، وهذا من باب الحيطة، وكأنه كان يشك في أمر بني عامر، فخرج إليهم حرام فسألهم: أتعطوني الأمان أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فجعل حرام يحدثهم، ولكنهم غدروا به وأشاروا إلى رجل أن يقتله، فجاءه من خلفه فطعنه حتى أنفذه بالرمح من الجانب الآخر، فقال حرام لما طعن: الله أكبر! فزت ورب الكعبة، يعني: فزت بالشهادة، فلما رآه الرجل الذي كان يرافقه حاول اللحاق بأصحابه ليخبرهم، فلم يمكنوه أن يرجع إلى المسلمين؛ بل لحقه المشركون فقتلوه، وقتلوا أصحابه، كما قال حرام، وكما توقع، فقتلوا كلهم غير الرجل الأعرج، هرب إلى رأس جبل، فعاش، حتى قتل يوم الخندق شهيدا، وفي صحيح البخاري: «فأراه آخر معه»، أي: نجا معه رجل آخر، قيل: هو عمرو بن أمية الضمري، فأنزل الله تعالى في شأنهم قرآنا يتلى: (إنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا)، ثم نسخت تلاوته
وقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم على القاتلين لما بلغه خبرهم، وظل يدعو عليهم ثلاثين صباحا في القنوت -وهو دعاء يكون بعد الرفع من الركوع وقبل السجود، في الركعة الأخيرة في الصلاة- على رعل، وذكوان، وبني لحيان، وعصية الذين عصوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم غدروا بأصحابه الكرام. وبنو لحيان ليسوا من أصحاب قصة بئر معونة، إنما هم أصحاب قصة الرجيع الذين قتلوا عاصم بن ثابت وأصحابه رضي الله عنهم وأسروا خبيب بن عبد الرحمن رضي الله عنه، وإنما شرك النبي صلى الله عليه وسلم بينهم في الدعاء عليهم؛ لورود خبر بئر معونة وأصحاب الرجيع في ليلة واحدة.
وقد ورد عند أبي داود، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا، في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وصلاة الصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال: سمع الله لمن حمده، من الركعة الآخرة، يدعو على أحياء من بني سليم؛ على رعل، وذكوان، وعصية، ويؤمن من خلفه»، ثم ترك الدعاء عليهم لما نزل قول الله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء} [آل عمران: 128]، كما ورد في الصحيحين
وفي الحديث: الدعاء على أهل الغدر وانتهاك المحارم، والإعلان بأسمائهم، والتصريح بذكرهم
وفيه: حرص الصحابة على الشهادة، وفرحهم لنيلها
وفيه: إثبات صفة الرضا لله سبحانه وتعالى، من غير تأويل، ولا تحريف، ولا تمثيل؛ بل على ما يليق به سبحانه وتعالى
وفيه: دليل على أن أهل الحق قد ينال منهم المبطلون، ولا يكون ذلك دالا على فساد ما عليه أهل الحق؛ بل كرامة لهم، وشقاء لأهل الباطل
وفيه: فضل الصحابي الجليل حرام بن ملحان رضي الله عنه