باب استكراء الأرض بالطعام
سنن ابن ماجه
حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا سعيد ابن أبي عروبة، عن يعلى بن حكيم، عن سليمان بن يسار
عن رافع بن خديج، قال: كنا نحاقل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فزعم أن بعض عمومته أتاهم، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت له أرض، فلا يكريها بطعام مسمى" (2).
كانتِ الجاهِليَّةُ يَسودُ فيها أنواعٌ مِن المعاملاتِ الَّتي تَمتلِئُ ظُلمًا وإجحافًا، فلمَّا جاء الإسلامُ أقرَّ البَيعَ العادلَ، ونهَى عن كلِّ ما فيه ظُلمٌ؛ فمَنَع ما فيه الغِشُّ والغرَرُ والجهالةُ لقَطْعِ النِّزاعِ والخُصومةِ بيْن الناسِ، وهذا مَقصِدٌ مِن المَقاصِدِ الشَّرعيَّةِ.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ رافعُ بنُ خَدِيجٍ رَضِي اللهُ عنه أنَّهم كانوا يُحاقِلُون الأرضَ على عَهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، واختُلِف في مَعنى المُحاقَلةِ؛ فقيل: هي إجارةُ الأرضِ بالحِنْطةِ؛ هكذا جاء مُفسِّرًا في بَعضِ الرِّواياتِ، وهو الَّذي يُسمِّيه الزَّرَّاعُون المُحارَثةَ، وقيل: هي المُزارَعةُ على نَصيبٍ مَعلومٍ؛ كالثُّلثِ والرُّبعِ ونَحوِهما، كما جاء في هذا الحديثِ، وقيل: هي بَيعُ الطَّعامِ في سُنبُلِه بالبُرِّ، وقيل: بَيعُ الزَّرعِ قبْلَ إدراكِه، وقولُه: «والطَّعامِ المسمَّى»، أي: بأخذِ نَصيبٍ مُحدَّدٍ مِن الثَّمرِ أُجرةً على الأرضِ، وكلُّ هذا يَحمِلُ الجَهالةَ في العَقدِ بيْن المالِكِ والمُستأجِرِ، ثمَّ أخبَرَ رافِعٌ رَضِي اللهُ عنه أنَّ الأمرَ استَمرَّ عِندهم على ذلك حتَّى جاءهمْ ذاتَ يومٍ أحَدُ أعمامِهِ -قيلَ: هو عَمُّهُ ظُهَيرُ بنُ رافِعٍ- فأخبَرَهم أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم نَهاهم عَن أمْرٍ كانَ نافعًا لهم، يُريدُ المُحاقَلةَ، وهو ما يَحصُلُ لهم مُقابِلَ استخدامِ الأرضِ، فيَستفيدونَ، ويَستفيدُ العاملُ، ولكنَّ هذِه المَنفَعةَ في الحَقيقةِ مَنفَعةٌ جُزْئيَّةٌ، وربَّما لم يَسلَمْ مِن الضَّررِ؛ فربَّما هَلَكتْ ثِمارُها، وضاع حقُّ أحدِهما. «إلَّا أنَّ طَواعِيةَ اللهِ ورَسولِهِ أنفَعُ لنا»، أي: فإنَّ طاعةَ اللهِ ورسولِه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فِيما يُرِشدُنا إليه أنفَعُ لنا مِن هذا النَّفعِ المَظنونِ في الكِراءِ والمزارعةِ الَّتي كُنَّا نَفْعَلُها، فإجابةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنفَعُ وأصلَحُ لِدِينِهم ودُنْياهم، وكانَ مِن مُحاقَلتِهمْ بالأرْضِ أنَّهم كانوا يُؤجِّرُونها بالثُّلُثِ والرُّبُعِ والطَّعامِ المُسَمَّى، أي: بأخْذِ نَصيبٍ مِن الثَّمرِ أُجرةً على الأَرضِ، فأمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم صاحبَ الأرضِ أنْ يَزرَعَها بنفْسِه إنِ استطاع، أو يُعطِيها لمَن يَزرَعُها، وكَرِهَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم «كِراءَها، وما سِوى ذلكَ»، أي: وكلَّ ما يَتعلَّقُ بالإكْراءِ، وقيل: إنَّ هذا في أوَّلِ الهجرةِ رِفقًا بهم؛ إمَّا أنْ يَزرَعوها، وإمَّا أنْ يَزرَعَها غيرُهم مِن إخوانِهم المهاجرينَ، ثمَّ رخَّصَ في الأُجرةِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. وقدْ ورَدَ أنَّ الإجارةَ بالذَّهبِ والفِضَّةِ والنَّقدِ لا بأسَ بها؛ ففي الصَّحيحينِ، عن حَنْظلةَ بنِ قَيسٍ: «أنَّه سَأل رافعَ بنَ خَديجٍ عن كِراءِ الأرضِ، فقال: نَهى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عن كِراءِ الأرضِ، قال: فقلْتُ: أبِالذَّهبِ والوَرِقِ؟ فقال: أمَّا بالذَّهبِ والوَرِقِ فلا بأسَ به»، وفي الصَّحيحينِ أيضًا، عن ابنِ عمَرَ رَضِي اللهُ عنهما، قال: «عامَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم خَيبَرَ بشَطرِ ما يَخرُجُ منها مِن ثمَرٍ أو زرْعٍ». وعليه فإنَّ للمالكِ أنْ يُؤجِّرَها بنِسبةٍ شائعةٍ ممَّا يُزرَعُ فيها، كالرُّبعِ والثُّلثِ مِن إنتاجِها، والمَنهيُّ عنه مَحمولٌ هو ما كان فيه مُخاطَرةٌ وجَهالةٌ وغرَرٌ، وكان أشْهَرُها هي الَّتي كان يَختَصُّ بها صاحبُ الأرضِ بجُزءٍ منها وما تُنبِتُه لنفسِه.
وفي الحديثِ: أنَّ اللهَ عزَّ وَجلَّ ورَسولَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لا يَنْهيانِ عنِ المنافِعِ والمَصالحِ، وإنَّما يَنْهيانِ عنِ المفاسِدِ، وما يُؤدِّي إليها.