باب الأجير
بطاقات دعوية
عن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه رضي الله عنه قال: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك (وفي رواية: العسرة 5/ 129)، فحملت على بكر، فهو أوثق أعمالي في نفسي، فاستأجرت أجيرا، فقاتل رجلا، فعض أحدهما الآخر، [قال عطاء: فلقد أخبرني صفوان أيهما عض الآخر، فنسيته]، فانتزع [المعضوض] يده من فيه (وفي رواية: من في العاض)، ونزع ثنيته، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأهدرها، فقال: "أيدفع يده إليك، فتقضمها كما يقضم الفحل (وفي رواية: أفيدع يده في فيك تقضمها كأنها في في فحل يقضمها)؟! "
الحُكمُ بيْن النَّاسِ يَنبَغي أنْ يكونَ مَبنيًّا على عِلمٍ، ولا يَتَولَّى القَضاءَ إلَّا العُلماءُ العارِفونَ بأحْكامِه وضَوابِطِه، وقدْ حذَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن القَضاءِ بغَيرِ عِلمٍ، أو بالهَوى، كما بيَّنَ فَضْلَ القَضاءِ بالعَدلِ عن عِلمٍ، وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بفِعلِه القُدوةَ والمَثلَ الأعْلى في هذا الشَّأنِ.
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي يَعْلى بنُ أُمَيَّةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه غَزا معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غَزْوةَ العُسْرةَ، وهي غَزْوةُ تَبوكَ، وقدْ كانت آخِرَ غَزْوةٍ خرَجَ فيها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بنفْسِه، وكانت في رجَبٍ سَنةَ تِسعٍ مِن الهِجْرةِ، وكانت معَ الرُّومِ، وتَبوكُ في أقْصى شَمالِ الجَزيرةِ العَربيَّةِ، وتقَعُ في شَمالِ المَدينةِ على بُعدِ 700 كم، وسُمِّيَ جَيشُها جَيشَ العُسْرةِ؛ لتَعسُّرِ حالِ الجَيشِ مادِّيًّا، فلمْ يكُنْ ثَمَّةَ مالٌ لتَجْهيزِ الجَيشِ، مع شدَّةِ الحَرِّ، وبُعدِ المَسافةِ مِن المَدينةِ، وسبَبُها أنَّ الرُّومَ جمَعَت جُيوشًا كَثيرةً بالشَّامِ، فعلِمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلك، فحَثَّ النَّاسَ على الخُروجِ إليهم.
ولشِدَّةِ هذه الغَزْوةِ كان يَعْلى بنُ أُمَيَّةَ رَضيَ اللهُ عنه يَذكُرُ أنَّ تلك الغَزْوةَ هي أوْثَقُ أعْمالِه، أي: أفضَلُها، وأحكَمُها في نفْسِه. ويَحْكي يَعْلي بنُ أُمَيَّةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه كان له أَجيرٌ يَخدُمُه بالأُجْرةِ، فقاتَلَ هذا الأَجيرُ إنْسانًا مِن المُسلِمينَ، فعَضَّ أحَدُهما يَدَ الآخَرِ، وأخبَرَ عَطاءُ بنُ أبي رَباحٍ أنَّ صَفْوانَ بنَ يَعْلى حدَّدَ له العاضَّ مِن المعضوضِ لكنَّه نَسيَ، وفي رِوايةِ مُسلمٍ أنَّ الأجِيرَ هو المعضوضُ، فانتَزَعَ المَعْضوضُ يَدَه مِن فَمِ العَاضِّ، فانتَزَعَ إحْدى ثَنيَّتَيْه، أي: أسْقَطَها بانْتِزاعِها مِن فَمِه، والثَّنيَّةُ مُقدَّمُ الأسْنانِ، وللإنْسانِ أربَعُ ثَنايا: ثِنْتانِ مِن فوقُ، وثِنْتانِ مِن أسفَلُ. فأتَيا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأهْدَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثَنيَّةَ العاضِّ ولم يُوجِبْ له دِيَةً، ولا قِصاصًا. وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُستَنكِرًا: أفيَترُكُ يَدَه في فِيكَ تَقضَمُها -أي: تَأكُلُها بأطْرافِ أسْنانِكَ- كأنَّها فِي فَمِ ذَكَرِ إبِلٍ يَأكُلُها!
وفي الحَديثِ: رَفعُ الجِناياتِ إلى الحُكَّامِ لأجْلِ الفَصلِ.
وفيه: تَشْبيهُ فِعلِ الآدَميِّ بفِعلِ الحَيوانِ الَّذي لا يَعقِلُ؛ للتَّنْفيرِ عن مِثلِ فِعلِه.
وفيه: مَشْروعيَّةُ ذِكرِ الرَّجلِ الصَّالِحِ عَمَلَه، ما لم يكُنْ في ذلك رياءٌ وسُمعةٌ.
وفيه: مَشْروعيَّةُ استِئْجارِ الأَجيرِ للخِدمةِ، وكِفايةِ مُؤْنةِ العَملِ في الغَزْوِ وغَيرهِ.