باب الأمر بأداء الأمانة 4

بطاقات دعوية

باب الأمر بأداء الأمانة 4

 وعن أبي خبيب - بضم الخاء المعجمة - عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، قال: لما وقف الزبير يوم الجمل (1) دعاني فقمت إلى جنبه، فقال: يا بني، إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل اليوم مظلوما، وإن من أكبر همي لديني، أفترى ديننا يبقي من مالنا شيئا؟ ثم قال: يا بني، بع ما لنا واقض ديني، وأوصى بالثلث وثلثه لبنيه، يعني لبني عبد الله بن الزبير ثلث الثلث. قال: فإن فضل من مالنا بعد قضاء الدين شيء فثلثه لبنيك. قال هشام: وكان بعض ولد عبد الله قد وازى (2) بعض بني الزبير خبيب وعباد، وله يومئذ تسعة بنين وتسع بنات. قال عبد الله: فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بني، إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه بمولاي. قال: فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله. قال: فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه. قال: فقتل الزبير ولم يدع دينارا ولا درهما إلا أرضين، منها الغابة (3) وإحدى عشرة دارا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارا بالكوفة، ودارا بمصر. قال: وإنما كان دينه الذي كان عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال، فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكن هو سلف إني أخشى عليه الضيعة (4). وما ولي إمارة قط ولا جباية (5) ولا خراجا (6) ولا شيئا إلا أن يكون في  غزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مع أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - قال عبد الله: فحسبت ما كان عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومئتي ألف! فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير، فقال: يا ابن أخي، كم على أخي من الدين؟ فكتمته وقلت: مائة ألف. فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع هذه. فقال عبد الله: أرأيتك إن كانت ألفي ألف ومئتي ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي، قال: وكان الزبير قد اشترى الغابة بسبعين ومئة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمئة ألف، ثم قام فقال: من كان له على الزبير شيء فليوافنا بالغابة، فأتاه عبد الله بن جعفر، وكان له على الزبير أربعمئة ألف، فقال لعبد الله: إن شئتم تركتها لكم؟ قال عبد الله: لا، قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن إخرتم، فقال عبد الله: لا، قال: فاقطعوا لي قطعة، قال عبد الله: لك من هاهنا إلى هاهنا. فباع عبد الله منها فقضى عنه دينه وأوفاه، وبقي منها أربعة أسهم ونصف، فقدم على معاوية وعنده عمرو بن عثمان، والمنذر بن الزبير، وابن زمعة، فقال له معاوية: كم قومت الغابة؟ قال: كل سهم بمئة ألف، قال: كم بقي منها؟ قال: أربعة أسهم ونصف، فقال المنذر بن الزبير: قد أخذت منها سهما بمئة ألف، قال عمرو بن عثمان: قد أخذت منها سهما بمئة ألف. وقال ابن زمعة: قد أخذت سهما بمئة ألف، فقال معاوية: كم بقي منها؟ قال: سهم ونصف سهم، قال: قد أخذته بخمسين ومئة ألف. قال: وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستمئة ألف، فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه، قال بنو الزبير: اقسم بيننا ميراثنا، قال: والله لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه. فجعل كل سنة ينادي في الموسم، فلما مضى أربع سنين قسم بينهم ودفع الثلث. وكان للزبير أربع نسوة، فأصاب كل امرأة ألف ألف ومئتا ألف، فجميع ماله خمسون ألف ألف ومئتا ألف. رواه البخاري. (1)

كان الصحابة رضي الله عنهم يتوكلون على الله حق توكله في كل أمور حياتهم، وظهر ذلك في تسليم أمرهم لله عز وجل وعدم الخوف من الفقر، بل كانوا يأخذون من الدنيا ما قدر الله لهم بنفس راضية دون تكالب عليها، فكان في حياتهم البركة
وفي هذا الحديث يروي عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه لما وقف الزبير بن العوام يوم موقعة الجمل -التي كانت بين الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما ومن معهما من جانب، وعلي رضي الله عنه ومن معه من جانب آخر، على باب البصرة سنة ست وثلاثين بعد مقتل عثمان- دعا الزبير بن العوام ابنه عبد الله، فقام واقفا إلى جنبه، فأخبره أنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم؛ وذلك لأن كلا الفريقين كان يتأول أنه على الصواب، وأخبره أنه يظن أنه سيقتل اليوم مظلوما؛ ولعل ذلك لأنه لم ينو قتالا ولا عزم عليه، فأراد أن يوصي ابنه بقضاء ديونه، فأخبره أن من أكبر همه الدين، ويظن أن دينه هذا لن يبقي من ماله شيئا؛ وذلك لكثرة ما عليه وإشفاقا من دينه، ثم طلب من عبد الله أن يبيع ماله ويقضي دينه، ثم أوصى بالثلث من ماله مطلقا، ثم بثلث الثلث لأبناء عبد الله بن الزبير خاصة، وكان بعض ولد عبد الله بن الزبير قد ساوى بعض أولاد الزبير في السن، فخص أولاد عبد الله دون غيرهم؛ لكونهم كثروا وتأهلوا حتى ساووا أعمامهم في ذلك، فجعل لهم نصيبا من المال ليتوفر على أبيهم حصته، وكان خبيب وعباد هما ولدا عبد الله بن الزبير، ولم يكن له يومئذ سواهما، وكان للزبير يوم وصيته تسعة بنين وتسع بنات، فجعل الزبير يوصي ابنه عبد الله بقضاء دينه، ويقول: يا بني، إن عجزت عنه في شيء فاستعن عليه مولاي، ولم يعرف عبد الله ما يقصد الزبير بمولاه، فسأله: يا أبت، من مولاك؟ فأجابه: الله، وهذا من التسليم التام لله والتوكل عليه، مع الثقة فيه سبحانه؛ فهو سيده وناصره، ومعينه في حياته وبعد مماته
ويقسم عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه لم يقع في كربة أثناء قضاء الدين، إلا استعان بالله ويقول: «يا مولى الزبير، اقض عنه دينه، فيقضيه» الله سبحانه؛ استجابة لدعائه
وقد وقع ما توقعه الزبير؛ فقتل رضي الله عنه في هذه المعركة، ولكنه مات ولم يدع دينارا ولا درهما، وإنما ترك أرضين، منها الغابة، وهي أرض عظيمة من عوالي المدينة، وإحدى عشرة دارا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارا بالكوفة، ودارا بمصر، وهذه الأصول هي التي بيعت لسداد ديون الزبير رضي الله عنه.
ثم ذكر عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما سبب ديون أبيه، فذكر أن الرجل كان يأتيه بالمال ويجعله وديعة وأمانة عنده، فيقول الزبير: لا أقبضه وديعة ولكنه قرض في الذمة، حيث كان يخشى عليه الضياع، وهذا أوثق لصاحب المال، وأبقى لمروءة الزبير رضي الله عنه
ثم ذكر عبد الله مصدر أموال أبيه؛ فإن الزبير رضي الله عنه ما ولي إمارة قط، ولا جباية خراج، ولا شيئا مما يكون سببا لتحصيل المال، وأراد بذلك أن كثرة ماله ليست من هذه الجهات التي يظن فيها السوء بأصحابها، ولكن ما حصل عليه من الأموال كان من الغنائم التي أخذها بعد كل غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو مع أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، فيكسب من الغنيمة، وما أفاء الله عليه من الجهاد، وما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم، فبارك الله له في ماله؛ لطيب أصله
ثم عد ابنه عبد الله ما عليه من الدين، فوجده ألفي ألف ومئتي ألف، أي: مليونين ومئتي ألف درهم، فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير، فسأله: كم على أبيك من الدين؟ فكتم عنه أصل الدين، فأجابه أن الدين مئة ألف، وما كذب في قوله؛ إذ لم ينف الزائد على المئة، ومفهوم العدد لا اعتبار له؛ لأنه صدق في البعض وكتم بعضا، وقيل: إنما قال له: «مئة ألف» وكتم الباقي؛ لئلا يستعظم حكيم بن حزام ما استدانه الزبير، فيظن به عدم الحزم، ويظن بعبد الله عدم الوفاء بذلك، فينظر إليه بعين الاحتياج إليه، فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تكفي لهذه الديون، فقال له عبد الله: أخبرني إن كانت ألفي ألف ومئتي ألف. لما رأى عبد الله استعظام حكيم لأمر المئة ألف، احتاج أن يذكر له جميع الديون ويعرفه أنه قادر على الوفاء بها، فرد حكيم: ما أراكم تطيقون وفاء هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي
فباع عبد الله رضي الله عنه الغابة بألف ألف وست مئة ألف، أي: مليون وست مئة ألف درهم، فنادى عبد الله في الناس: من كان له على الزبير حق، فليأتنا بالغابة، فأتاه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما، وكان له على الزبير أربع مئة ألف، فقال لعبد الله بن الزبير: إن شئتم تركتها لكم تكرما وفضلا، فلا أسترد ديني، فأجابه عبد الله بن الزبير: لا تترك دينك، فقال ابن جعفر: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن أخرتم؟ يطلب أن يجعله في آخر من يسدد لهم الدين، فقال عبد الله: لا تؤخر، فقال ابن جعفر: فاقطعوا لي قطعة من الأرض تكون سدادا لديني. فحددها له ابن الزبير تحديدا تاما، فباع ابن الزبير من أرض الغابة والدور لا من الغابة وحدها، فقضى دين أبيه، فأوفاه جميعه وبقي من الغابة بغير بيع أربعة أسهم ونصف، فجاء عبد الله بن الزبير إلى معاوية بن أبي سفيان دمشق، وكان عنده عمرو بن عثمان بن عفان، والمنذر بن الزبير بن العوام أخوه، وابن زمعة، فقال له معاوية: كم قومت الغابة؟ فأجابه: كل سهم من أصل ستة عشر سهما بمئة ألف، فسأله: كم بقي؟ قال: أربعة أسهم ونصف، قال المنذر بن الزبير: قد أخذت سهما بمئة ألف، وقال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهما بمئة ألف، وقال ابن زمعة: قد أخذت سهما بمئة ألف، فسأل معاوية: كم بقي؟ فقال: سهم ونصف. قال: أخذته بخمسين ومئة ألف
وبعد أن حاز كل شخص من الدائنين حقه من الأرض، باع عبد الله بن جعفر نصيبه لمعاوية بست مئة ألف، فربح مئتي ألف
ولما فرغ ابن الزبير من قضاء دين أبيه، قال بنو الزبير: اقسم بيننا ميراثنا. قال عبد الله: لا والله، لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير، فليأتنا فلنقضه، وليس في ذلك منع المستحق من حقه -وهو القسمة والتصرف في نصيبه-؛ لأن عبد الله بن الزبير كان وصيا على أموال الزبير، فتصرف بما فيه مصلحة الديون أولا؛ لأنه ظن بقاء الديون، والقسمة لا تكون إلا بعد وفاء الديون كلها عن الميت
وخصص المناداة بأربع سنين؛ لأن الغالب أن المسافة التي بين مكة وأقطار الأرض تقطع في ذلك الزمان في سنتين، فأراد أن تصل الأخبار إلى الأقطار، ثم تعود إليه، فيكون بذلك قد استبرأ ذمة أبيه
فجعل كل سنة ينادي في موسم الحج، حيث يجتمع الناس من أنحاء الدولة الإسلامية: ألا من كان له على الزبير دين، فليأتنا نقضه، فلما مضى أربع سنين قسم بينهم، وكان للزبير أربع نسوة مات عنهن، وهن أم خالد، والرباب، وزينب، وعاتكة بنت زيد، ورفع عبد الله الثلث الموصى به الذي أوصى به الزبير للمساكين، فأصابت كل امرأة ألف ألف ومئتا ألف، أي: مليونا ومئتي ألف، وكان جميع ماله خمسين مليونا ومئتي ألف.
وفي الحديث: أن من هدي الصحابة رضي الله عنهم الوصية عند الحرب.
وفيه: تأخير قسمة الميراث حتى تقضى ديون الميت وتنفذ وصاياه.
وفيه: أن من هدي الصحابة رضي الله عنهم الوصية للأحفاد إذا كان هناك من يحجبهم.
وفيه: أن من هدي الصحابة رضي الله عنهم شراء الوارث من التركة، وكذلك شراء الوصي إذا كان بالقيمة.
وفيه: بيان جود عبد الله بن جعفر؛ فلذلك سمي بحر الكرم.
وفيه: فضل عبد الله بن جعفر وحكيم بن حزام رضي الله عنهم.
وفيه: النهي عن الدين لمن لا وفاء له أو لمن يصرفه في غير وجهه.
وفيه: أن من هدي الصحابة رضي الله عنهم النداء في ديون من يعرف بالدين.
وفيه: النداء في المواسم؛ لأنها مجمع الناس.
وفيه: الترغيب والحث على الثقة والتوكل على الله عز وجل.
وفيه: مباركة الله سبحانه للغازي والمجاهد في سبيله في ماله حيا وميتا.