باب الإيثار والمواساة 2
بطاقات دعوية
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه ، فقالت : والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى ، فقالت مثل ذلك ، حتى قلن كلهن مثل ذلك : لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( من يضيف هذا الليلة ؟ )) فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله ، فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .وفي رواية قال لامرأته : هل عندك شيء ؟ فقالت : لا ، إلا قوت صبياني . قال: فعلليهم بشيء وإذا أرادوا العشاء فنوميهم ، وإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج ، وأريه أنا نأكل . فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين ، فلما أصبح غدا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال : (( لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة )) متفق عليه .
إن من الأخلاق الحميدة، والمعاني النبيلة، والصفات الأصيلة التي حث عليها القرآن، وسطرها الصحابة الكرام؛ خلق الإيثار
وفي هذا الحديث يحكي أبو هريرة رضي الله عنه أنه أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل ضيفا عليه يشكو حاله وحاجته، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى نسائه واحدة تلو الأخرى: هل عندها شيء؟ فكانت كل واحدة تقول: «ما معنا إلا الماء»، وهذا كناية على أنه ليس عندهن طعام يضيفون به الضيف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين: «من يضم -أو يضيف- هذا» فيأخذه، ويطعمه، ويكرمه في بيته؟ فقال رجل من الأنصار -قيل: هو أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري رضي الله عنه، وقيل: أبو طلحة غير زيد بن سهل-: «أنا»، ثم أخذ الضيف، فانطلق به إلى بيته، وقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لبيان قدره ومنزلته، وشحذ همة زوجته في التكلف له وإطعامه، فقالت: «ما عندنا إلا قوت صبياني»، أي: ليس عندهم إلا عشاء تلك الليلة الذي يكفي أطفالهم فقط، فقال لها: «هيئي طعامك»، أي: أعديه على الهيئة التي ستقدم للضيف، «وأصبحي سراجك»، أي: أوقديه أو نوريه، «ونومي صبيانك»، أي: عجلي بنومهم حتى لا يدركهم الجوع، وطلب الطعام، فأطاعت المرأة زوجها، فهيأت طعامها، وأعدته للضيف، وأضاءت المصباح، ونومت صبيانها الصغار بغير عشاء، ثم قدمت الطعام للضيف، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته عن قصد فأظلمت البيت، فجعلا يتظاهران أنهما يأكلان بتحريك أسنانهما، ومد أيديهما؛ حتى يأكل الضيف من الطعام حاجته، وحتى لا يشعر أيضا بقلة الطعام، فباتا الزوجان «طاويين»، أي: جائعين من غير عشاء، فلما أن أصبح الأنصاري «غدا»، أي: ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ضحك الله الليلة -أو عجب- من فعالكما، فأنزل الله: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9]، والمعنى: أن من أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم؛ خلق الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها، ومن رزق الإيثار فقد وقي شح نفسه، وبذلك يحصل الفلاح والفوز له في الدنيا والآخرة
وفي الحديث: بيان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هو عليه من شظف العيش، وقلة ذات اليد.
وفيه: أنه ليس من المسألة المذمومة عرض الضيافة على الناس.
وفيه: أن من أدب الضيافة ألا يري الرجل ضيفه أنه مان عليه، أو أن الضيف مضيق عليه، ومحرج له.
وفيه: منقبة لهذا الرجل الأنصاري وإيثاره العظيم.
وفيه: إثبات صفة الضحك والتعجب لله عز وجل على الوجه الذي يليق بجلاله وكماله، من غير تكييف، ولا تحريف، ولا تعطيل.