باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة
بطاقات دعوية
عن أَنس بن مالك قالَ: أصابَ الناسَ سَنَةٌ (وفي روايةٍ: قحطٌ ) على عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ [على المنبر ] [قائماً] في يوم الجمعةِ، قامَ (وفي روايةٍ: دخل) أعرابيٌّ [من أهل البَدْوِ] [من باب كان وُجاهَ المنبرِ] [نحو دارِ القضاءِ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم، فاستقبلَ رسولَ الله قائماً] فقال: يا رسولَ الله! هلكَ المالُ، وجاعَ (وفي روايةٍ: هلك) العِيالُ (ومن طريقٍ أخرى: هلَكَ الكُراع، وهلك الشاء)، (وفي أخرى: هلكت المواشي، وانقطعت السُبُل)، فَادْعُ الله لنا [أن يسقينا، (وفي أخرى: يُغيثنا)]، فرفع يديه يدعو [ - حتى رأيت بياض إبطه]:
" [اللهمَّ أَغثنا، اللهمَّ أَغثنا، اللهمَّ أَغثنا] "، [ورفع الناسُ أَيْدِيَهُمْ معه يدعون]، [ولم يذكر أنه حوَّل رداءه، ولا استقبل القبلةَ]، و [لا والله] ما نرى في السماء [من سحابٍ ولا] قَزعةً، [ولا شيئاً، وما بيننا وبين سَلْع من بيت ولا دار]، (وفي رواية: قال أنس: وإن السماء لمثل الزجاجة)، [قال: فطَلَعَتْ من ورائه سحابةٌ مثلُ التُرسِ، فلما توسطت السماءَ انتشرت ثم أمطرت] فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحابُ أمثالَ الجبال، ثم لم يَنْزِلْ عن منبره حتى رأيت المطرَ يتحادرُ على لحيته - صلى الله عليه وسلم -.
(وفي روايةٍ: فهاجَتْ ريحٌ أنشأت سحاباً، ثم اجتمع، ثم أرسلت السماء عزالِيَها [ونزل عن المنبر فصلَّى]، فخرجنا نخوض الماءَ حتى أتينا منازلنا)، (وفي روايةٍ: حتى ما كاد الرجل يصل إِلى منزِلِه)، فمطرنا يوَمنا ذلك، ومن الغدِ وبعد الغَدِ، والذي يليه حتى الجمعةِ الأخرى [ما تُقْلعُ]، [حتى سالت مثاعب المدينة]، (وفي روايةٍ: فلا والله ما رأينا الشمس ستاً).
وقام ذلك الأعرابي أو غيرهُ (وفي روايةٍ: ثم دخل رجلٌ، من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب، فاستقبله قائماً)، فقال: يا رسول الله! تَهَدَّمَ البناءُ (وفي روايةٍ: تهدَّمَتِ البيوتُ، وتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، وهَلَكتِ المواشي)، (وفي طريق: - بَشَقَ المُسافِرُ، ومُنعَ الطريقُ)، وغَرِقَ المالُ، فادْع الله [يَحْبِسُهُ] لنا، [فتبسَّم النبي - صلى الله عليه وسلم -]، فرفع يده، فقال:
"اللهم حوالَيْنا ولا علَيْنا، [اللهم على رؤوس الجبال والإكام [والظِّراب] وبطون الأودية ومنابت الشجر] "، فما [جعل] يشير بيده إِلى ناحية من السحاب إِلا انفرجت مثل الجَوْبة، (وفي روايةٍ: فنظرت إِلى السحاب تصدَّعَ حول المدينة [يميناً وشمالاً] كأنه إكليلٌ)، (وفي أخرى: فانجابَتْ عن المدينة انجيابَ الثوب) [يُمطر ما حوالينا ولا يُمطر فيها شيء (وفي طريقٍ: قطرةٌ) [وخرجنا نمشي في الشمسِ]، يريهم الله كرامة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - وِإجابةَ دعوتِهِ]، وسال الوادي [وادي] قناةَ شهراً، ولم يجىء أحدٌ من ناحيةٍ إلا حَدَّثَ بالجَوْدِ.
علَّمَنا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ نَتوجَّهَ إلى اللهِ تعالَى بالدُّعاءِ في كلِّ أُمورِنا، وخاصَّةً في النَّوازلِ، فنَدْعوه ليَرفَعَ عنا البَلاءَ، وفي هذا الحديثِ يَرْوي أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رجُلًا دَخَلَ يومَ الجُمُعةِ مِن أحدِ أبوابِ المسجِدِ النَّبويِّ، وكان هذا البابُ مُواجِهًا ومُقابِلًا للمِنبرِ، وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائمًا على المنبرِ يَخطُبُ، فوقَفَ الرَّجلُ واستَقبَلَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بوَجْهِه، وقال: يا رسولَ اللهِ، هلَكَتِ المَواشي؛ بسَببِ عدَمِ تَوفُّرِ ما تَعيشُ به مِن الأقواتِ المفقودةِ بحَبْسِ المطَرِ، وانقطَعَتِ السُّبُلُ، أي: الطُّرُقُ، فلمْ تَسلُكْها الإبلُ لهَلاكِها أو ضَعفِها؛ بسَببِ قِلَّةِ الكَلَأِ، أو بإمْساكِ الأقواتِ فلم تُجلَبْ، أو بعَدَمِ ما يُحمَلُ عليها، فادْعُ اللهَ أنْ يُغيثَنا، فيَسقِيَنا بإنزالِ المطَرِ، فاستجابَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للرجُلِ، فرفَعَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يدَيْه ودَعا قائلًا: «اللَّهمَّ اسْقِنا»، وكرَّر الدُّعاءَ ثَلاثَ مرَّاتٍ، وكان مِن عادتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه إذا دَعا دَعا ثلاثًا، وإذا سَأَلَ سَأَلَ ثلاثًا، كما جاء في صَحيحِ مُسلمٍ عن ابنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه.
ثمَّ أخبَرَ أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّهم ما كانوا يرَوْنَ في السَّماءِ حِينَ دَعا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو على المنبرِ أيَّ سَحابٍ مُجتمِعٍ، ولا «قَزَعَةً» وهي القِطعةُ الرَّقيقةُ مِن السَّحابِ، ولا يرَوْنَ شيئًا مِن ريحٍ وغيرِه ممَّا يدُلُّ على المطَرِ، وما بيْنَهم وبيْن «سَلْعٍ» -وهو جبَلٌ بالمدينةِ- مِن بَيتٍ ولا دارٍ يَحجُبُهم عن رُؤيتِه، فظَهَرَتْ مِن وَراءِ سَلْعٍ سَحابةٌ مِثلُ التُّرْسِ؛ في الاستِدارةِ، لا في القَدْرِ، والتُّرسُ: أداةُ حرْبٍ تُستخدَمُ لحِمايَةِ المقاتِلِ مِن ضَرَباتِ الأسْهُمِ والسُّيوفِ، وقولُه: «فلمَّا توسَّطَتِ» القَزَعةُ «السَّماءَ، انتَشَرتْ ثمَّ أمطَرتْ»، أي: استَمرَّت مُستديرةً حتى انتَهَتْ إلى الأُفقِ، فانبَسَطَت حينَئذٍ، وفي هذا إشارةٌ إلى تَعميمِ الأرضِ بالمطَرِ.
ثمَّ حَلَفَ أنسٌ رَضيَ اللهُ عنه أنَّهم لم يَرَوا الشَّمسَ مُدَّةَ سِتَّةِ أيَّامٍ بسَببِ استِمرارِ وُجودِ السَّحابِ والمطَرِ. ثمَّ دخَل رجُلٌ في الجُمعةِ المقبلةِ -يَحتمِلُ أنْ يكونَ نفْسَ الرجُلِ، وأنْ يكونَ غيرَه- مِن ذلك البابِ الذي دخَلَ منه السائلُ أوَّلًا، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائمٌ يَخطُبُ، فاستَقبَلَه قائمًا، فقال: يا رسولَ اللهِ، هلَكَتِ الأموالُ، أي: المواشي؛ بسَببِ كَثرةِ المياهِ؛ لأنَّه انقَطَعَ المرعى، فهَلَكَتِ المواشي مِن عدَمِ الرَّعْيِ، وانقطَعتِ السُّبُلُ؛ لتَعذُّرِ سُلوكِها مِن كَثرةِ المطَرِ، فادْعُ اللهَ يُمسِكْها، فلا تُنزِلُ مَطَرًا ولا ماءً.
فرفَع صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يدَيْه، ثمَّ قال: «اللَّهمَّ حوالَيْنا»، أي: أَنزِلِ المطرَ حوالَيْنا ولا تُنزِلْه علينا، والمرادُ صَرفُه عن الأبنيةِ وإنزالُ المطَرِ حيثُ لا نَتضرَّرُ به، «اللَّهمَّ على الآكَامِ» جمْعُ أَكَمَةٍ، وهي التُّرابُ المجتمِعُ، أو الهَضْبةُ الضَّخمةُ، أو الجَبلُ الصَّغيرُ، وما ارتفَعَ مِن الأرضِ والجبالِ، «والآجامِ» وهي أبنيةٌ عاليةٌ تُشبِهُ القُصورَ، وهي مِن حُصونِ المدينةِ، «والظِّرَابِ» جمع ظَرِبٍ، وهو جبَلٌ مُنبسِطٌ على الأرضِ، أو الرَّوابي الصِّغارُ دونَ الجبَلِ، «والأوديةِ، ومَنابِتِ الشَّجرِ»، أي: أَنزِلِ المطرَ في مَناطقِ إنباتِ المَرعَى والشَّجرِ، لا في الطُّرُقِ المسلوكةِ، فانقطَعتِ الأمطارُ عن المدينةِ وخَرَجوا مِن المسجِدِ وهم يَمْشون في الشَّمسِ، وهذا مِن عَظيمِ فضْلِ اللهِ على نَبيِّه، وإظهارِ كَرامتِه عندَه سُبحانه.
وفي الحديثِ: عَلامةٌ مِن عَلاماتِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: الأدبُ في الدُّعاءِ، حيثُ لم يَدْعُ برفْعِ المطَرِ مُطلقًا؛ لاحتِمالِ الاحتياجِ إلى استمرارِه.
وفيه: أنَّ الدُّعاء بدفْع الضَّررِ لا يُنافي التَّوَكُّلَ.
وفيه: مَشروعيَّةُ الكلامِ مع الخَطيبِ وهو على المنبرِ للضَّرورةِ.