باب التثبت في الفتنة2
سنن ابن ماجه
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا عبد الله ابن عبيد مؤذن مسجد جردان (2) قال: حدثتني عديسة بنت أهبان، قالت:
لما جاء علي بن أبي طالب هاهنا، البصرة، دخل على أبي، فقال: يا أبا مسلم، ألا تعينني على هؤلاء القوم؟ قال: بلى، قال: فدعا جارية له، فقال: يا جارية، أخرجي سيفي. قال: فأخرجته فسل منه قدر شبر، فإذا هو خشب، فقال: إن خليلي وابن عمك - صلى الله عليه وسلم - عهد إلي "إذا كانت الفتنة بين المسلمين فاتخذ سيفا من خشب" فإن شئت خرجت معك. قال: لا حاجة لي فيك، ولا في سيفك (1)
المسلِمُ مأمورٌ أن يُطيعَ اللهَ ورسولَه في كلِّ وقتٍ، وعلى كلِّ حالٍ؛ في الفرَجِ والشِّدَّةِ، وفي الرَّخاءِ والفِتَنِ، وعلى المُسلِم إذا ظهَرَتِ الفِتنُ وانتشَرَت أن يَنجُوَ بنَفسِه ويَعتصِمَ بالكتابِ والسُّنةِ؛ ففيهما النَّجاةُ والفَلاحُ.
وفي هذا الحديثِ تُخبِرُ عُدَيسَةُ بنتُ أُهْبانَ رَضِي اللهُ عَنهما قالت: "لَمَّا جاء عليُّ بنُ أبي طالبٍ هاهُنا البَصْرةَ" وكان ذلك للخروجِ معه لموقعةِ الجَملِ التي وقعتْ بين عليٍّ وبين جيشِ طلحةَ بنِ عُبَيدِ اللهِ والزُّبيرِ بن العوامِّ رضي الله عنهم جميعًا، "دخَل على أبي, فقال: يا أبا مُسلِمٍ، ألَا تُعينُني على هؤلاءِ القومِ؟ قال: "بَلى"، وكأنَّه أظهَر رِضاه بمُساعَدتِه عليهم ثمَّ بيَّن قصْدَه، "فدعا جاريةً له, فقال: يا جاريةُ, أخرِجي سَيفي, قال: فأخرَجَتْه، فسَلَّ مِنه قدْرَ شِبرٍ"، أي: أخرَج السَّيفَ مِن جِرابِه بقَدْرِ شبرٍ، "فإذا هو خشَبٌ، فقال: إنَّ خَليلي وابنَ عَمِّك صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عَهِد إلَيَّ"، أي: أوصاني وأخَذ عليَّ العهدَ والميثاقَ "إذا كانتِ الفتنةُ بين المسلِمين فأتَّخِذُ سيفًا مِن خشَبٍ"، أي: أَجعَلُ لِنَفسي سيفًا مِن خشَبٍ لا يَقتُلُ، ولا يُسيلُ دَمًا حَرامًا، ولا يَقطَعُ؛ فهو كِنايةٌ عن العُزلةِ والكَفِّ عن القِتالِ بَينَ الفَريقَينِ، "فإن شِئتَ خرَجتُ معَك" وهذا مِن التَّخلُّصِ مِن هذا الموقفِ والتَّفلُّتِ منه, فقال له عليٌّ: "لا حاجةَ لي فيك, ولا في سَيفِك".
وهذا أمرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في الفِتَنِ العامَّةِ الَّتي يَلتبِسُ فيها الحقُّ بالباطلِ ولا يتَّضِحُ، ويكونُ القتالُ للدُّنيا وليس للدِّين، وقد يَفهَمُ كلَّ مُسلِمٍ الأمرَ مِن جانبِه ويُقدِّرُه، فيَرى واحدٌ أنَّه فِتنةٌ عامَّةٌ يُجلَسُ فيها في البيوتِ ولا يُشارَكُ فيها، ويَراها آخَرُ صِراعًا بين حقٍّ وباطلٍ، فيَشترِكُ فيها بنِيَّتِه، والإمامُ عليٌّ بوَصفِه الخليفةَ والحاكمَ فإنَّه كان يَرى أنَّه يُقاتِلُ مِن أجْلِ الحقِّ، ولم يَجبُرْ أحدًا على القِتالِ معه، ولو كان الواجِبُ في كلِّ اختلافٍ يَكونُ بينَ طائفَتَين مُسلِمتَين الهرَبَ منه وكَسْرَ السُّيوفِ؛ لَمَا أُقيمَ حَقٌّ ولا أُبطِل باطِلٌ، ولوَجَد أهلُ الشِّقاقِ والنِّفاقِ سَبيلًا إلى استِحْلالِ ما حَرُم مِن أموالِ المسلِمين وسَفْكِ دِمائِهم بأن يتَحزَّبوا عليهم، فيكُفَّ المسلِمون أيديَهم عنهُم، ويقولوا: هذه فتنةٌ، فما نُقاتِلُ فيها؛ فيتَعيَّنُ أنَّ محَلَّ الأمرِ بالكفِّ عن القِتالِ في الفتنةِ إذا كان القِتالُ على الدُّنيا أو لاتِّباعِ هوًى أو عصَبيَّةٍ.
وفي الحديثِ: التَّحذيرُ مِن الوقوعِ في الفِتَنِ والقَتلِ عندَ عدَمِ التَّبيُّنِ .