باب الجمع بين الصلاتين
حدثنا القعنبى عن مالك عن أبى الزبير المكى عن أبى الطفيل عامر بن واثلة أن معاذ بن جبل أخبرهم أنهم خرجوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى غزوة تبوك فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا.
التيسير والترفق بالمسلمين كان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج بأمته من الضيق إلى السعة في كل الأمور، ولا يكون ذلك إلا باتباع هديه وطاعته وعدم مخالفته
وفي هذا الحديث يروي معاذ بن جبل رضي الله عنه أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك، وكانت في السنة التاسعة بعد الهجرة، وتبوك: في أقصى شمال الجزيرة العربية في منتصف الطريق إلى دمشق، حيث تبعد عن الحجاز ما يقارب (1252 كم)، وكان صلى الله عليه وسلم خارجا لغزو الروم، وفي هذا السفر كان صلى الله عليه وسلم يجمع بين كل صلاتين، فصلى الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا، فكان صلى الله عليه وسلم يصلي العصر في وقت الظهر، والعشاء في وقت المغرب، ويسمى هذا (جمع تقديم)، وأخبر معاذ رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم ذات يوم أخر صلاة الظهر إلى وقت العصر، وأخر صلاة المغرب إلى وقت العشاء، ويسمى هذا (جمع تأخير)
ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم: «إنكم ستأتون» في سيركم وسفركم هذا، «غدا» وهو صباح اليوم التالي، «إن شاء الله»، وهذا امتثال من النبي صلى الله عليه وسلم لقول الله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله} [الكهف: 23، 24]، «عين تبوك» وهي بئر الماء التي سميت المنطقة باسمها، وكان بها القليل من الماء المجتمع بها، «وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار»، أي: يشتد حر النهار بدخول وقت الضحى، «فمن جاءها منكم» فسبق لها وأسرع قبل أن يحضرها النبي صلى الله عليه وسلم -وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من عادته أن يمشي ويسير في مؤخرة الجيش-، «فلا يمس من مائها شيئا» سواء أكان للشرب أو غيره، قليلا كان أو كثيرا، حتى يحضر النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله صلى الله عليه وسلم كان يخشى إذا مسه أحد قبل حضوره أن ينقطع الماء؛ وذلك لقلته، فأراد صلى الله عليه وسلم أن تظهر في الماء البركة بحضوره صلى الله عليه وسلم ويعم الماء جميع الجيش
ثم قال معاذ رضي الله عنه: «فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان» من المسلمين ممن كانوا في مقدمة الجيش، «والعين» التي فيها الماء «مثل الشراك» وشراك النعل: هو السير الذي يدخل فيه إصبع الرجل، أو الذي يكون على ظهر القدم، وهو كناية عن القلة الشديدة للماء، «تبض بشيء من ماء»، أي: تسيل بماء قليل رقيق، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم الرجلين: «هل مسستما من مائها شيئا؟» فأجابا: نعم، فسبهما صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لامهما وعاتبهما، «وقال لهما ما شاء الله أن يقول»، أي: بالغ صلى الله عليه وسلم في عتابهما، ويحتمل أن يكون: لأنهما كانا منافقين قصدا المخالفة، فصادف السب محله، ويحتمل أن كانا غير منافقين، ولم يعلما بنهي النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون سبه لهما لم يصادف محلا، فيكون ذلك لهما رحمة وزكاة، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث في صحيح مسلم: «اللهم إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه، فإنما أنا بشر، فأي المؤمنين آذيته، شتمته، لعنته، جلدته، فاجعلها له صلاة وزكاة، وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة»
وأخبر معاذ رضي الله عنه أن الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بعض الماء للنبي صلى الله عليه وسلم في آنية بعد أن غرفوه بأيديهم، فغسل صلى الله عليه وسلم فيه يديه ووجهه، ثم أمر أن يعاد ذلك الماء إلى العين، فلما فعلوا ذلك سالت العين بماء غزير كثير الانصباب، حتى ارتوى الناس وشربوا، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا رضي الله عنه أنه يقترب ويسرع -يا معاذ- إن أطال الله عز وجل في عمرك أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا، والجنان: البستان من النخل وغيره، والمعنى: أنه يكثر ماؤه، ويخصب أرضه، فيكون بساتين، ذات أشجار كثيرة وثمار، وهذا من معجزاته وعلامات نبوته صلى الله عليه وسلم، حيث امتلأ هذا المكان بعد ذلك بالزروع والثمار والحياة
في الحديث: الجمع بين الصلاتين في السفر، سواء كان المسافر نازلا أو سائرا.
وفيه: معجزتان ظاهرتان للنبي صلى الله عليه وسلم؛ كثرة الماء، وإنباؤه ببعض الغيب.
وفيه: تأديب الحاكم باللسان والسب غير الفاحش والبذيء.