باب الربا في بيوع النقد 1
بطاقات دعوية
عن عطاء بن أبي رباح أن أبا سعيد الخدري لقي ابن عباس فقال له أرأيت قولك في الصرف أشيئا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم شيئا وجدته في كتاب الله عز وجل فقال ابن عباس كلا لا أقول لك (1) أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنتم أعلم به وأما كتاب الله فلا أعلمه ولكني (2) حدثني أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ألا إنما الربا في النسيئة. (م 5/ 50)
كانتِ الجاهليَّةُ تَموجُ بالبيوعِ الرِّبويَّةِ، فهذَّبَ الإسلامُ تلك البيوعَ ونقَّحَها، فنَهَى الشَّرعُ عن كلِّ بَيعٍ فيه شُبهةُ رِبًا، وأجاز البيعَ الحلالَ الَّذي لا رِبا فيه.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ التَّابعيُّ أبو صالحٍ السَّمَّانُ أنَّ أبا سعيدٍ الخُدْرِيَّ -وهو سَعْدُ بنُ مالِكِ بنِ سِنانٍ- رَضيَ اللهُ عنه كان يقولُ: «الدِّينارُ بالدِّينارِ، والدِّرهمُ بالدِّرهمِ» حالَ كَوْنِهِ «مِثْلًا» مُقابلًا بِمُماثِلِهِ وما يُساوِيه؛ هذا البيعُ الصَّحيحُ، «فمَنْ زاد» فأعطَى الزِّيادةَ ولم يُعطِ المُماثِلَ، «أو ازداد» فأَخَذَ الزِّيادةَ ولم يأخُذِ المُماثِلَ، «فقدْ أَرْبى»، أي: ارْتكَبَ الرِّبا المُحَرَّمَ.
وقد ورَدَ هذا الحديثُ مَرفوعًا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الصَّحيحينِ وغيرِهما عن أكثَرَ مِن صَحابيٍّ، والعِلَّةُ في الذَّهبِ والفِضَّةِ هي الثَّمنِيَّةُ، فكُلُّ ما اعتُبِرَ ثَمنًا للأشياءِ يَأخُذُ حكْمَ الذَّهبِ والفِضَّةِ في كَونِه مِن الأموالِ الَّتي يَجْري فيها رِبا البيوعِ، مِثلُ العُملاتِ الوَرقيَّةِ المعاصِرةِ، فيُشترَطُ في بَيعِ الجنسِ بجِنسِه المُماثَلةُ والتَّقابُضُ في مَجلسِ العقْدِ. وإذا اختَلَفَ الجِنسُ وبَقِيَت العِلَّةُ -مِثلُ بَيعِ الذَّهبِ بالفِضَّةِ- فلا يُشترَطُ التَّماثُلُ، ويُشترَطُ فقَطِ التَّقابُضُ في مَجلسِ البيعِ؛ لِقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في صَحيحِ مُسلمٍ: «فإذا اختَلَفَت هذه الأصنافُ، فبَيِعوا كَيف شِئتُم، إذا كان يَدًا بيَدٍ».
فأخبَرَ أبو صالحٍ أنَّه ذَكَر لأَبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما يقولُ بغيرِ الحُكْمِ الَّذي ذَكَرْتَهُ مِنِ اشتِراطِ المُماثَلَةِ بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ أوِ العِوَضَيْنِ، فإنَّه يقولُ بجَوازِ المُفاضَلَةِ وإعطاءِ الزِّيادَةِ في أَحَدِ الثَّمنينِ أو العِوضينِ إذا اتَّحَدَ الجِنْسُ، وإذا كان يدًا بيَدٍ في وقْتِهِ ومَجلِسِه الَّذي بِيعَ فيه، فابنُ عباس رَضيَ اللهُ عنهما كان لا يرَى الرِّبا في بَيعِ الجِنسِ بالجِنسِ بعضِه ببَعضٍ مُتفاضِلًا، وأنَّ الرِّبا لا يَحرُمُ في شَيءٍ مِنَ الأشياءِ إلَّا إذا كان نَسِيئَةً مُؤجَّلًا.
فأخبَرَه أبو سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه سَبَق ولَقِي ابنَ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما وسَأله عن هذا الَّذي يُفْتي به مِن جَوازِ المُفاضَلَةِ عِند اتِّحادِ الجِنْسِ، هلْ هو مِن حَديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو أنَّه استَنْبَطَه مِن كِتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فإنَّه حُكْمٌ يَحتاجُ إلى دليلٍ مِنَ الكتابِ أوِ السُّنَّةِ، خاصَّةً وأنَّ فَتواهُ تُعارِضُ ما ثَبَت عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فأجابَه ابْنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه لم يَسمَعْ هذا الحُكْمَ بجَوازِ رِبا الفَضْلِ مِنْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولم يَجِدْهُ في كِتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ولكِنْ حدَّثه أسامةُ بنُ زَيْدٍ رَضيَ اللهُ عنهما -وهو مَوْلَى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وَحِبُّهُ وابنِ حِبِّه زَيدِ بنِ حارثةَ رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «الرِّبا في النَّسيئَةِ»، وقدْ فَهِم ابْنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ الرِّبا في تأخيرِ أَحَدِ العِوَضَيْنِ عَنِ العَقْدِ، لا في المُفاضَلَةِ فيه، فيُباعُ دِرهمٌ بدرهمين، ودِينارٌ بدينارين، بزيادةِ أحدِهِما على الآخَرِ، فلا تُشْتَرَطُ المُماثَلَةُ إذا اتَّحَدَ مجلِسُ العَقْدِ، وكان يَدًا بِيَدٍ، وأنَّ الرِّبا لا يَحْرُمُ في شيءٍ مِنَ الأشياءِ إلَّا إذا كان نَسيئَةً، وهو الزِّيادةُ المشروطةُ مُقابِلَ الأَجَلِ وتأخيرِ الوفاءِ؛ فهذا فَهْمُ ابْنِ عبَّاسٍ، وقد رجَع عنه إلى المُماثَلَةِ والتَّقابُضِ في الحال، ففي صَحيحِ مُسلمٍ عن أبي الصَّهباءِ مَولى ابنِ عبَّاسٍ: «أنَّه سَأل ابنَ عبَّاسٍ عنه بمكَّةَ، فكَرِهَه» أي: كَرِهَ التَّفاضُلَ في الصَّرفِ.
فالمقصودُ مِن قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ «الرِّبا في النَّسيئَةِ»: نَفْيُ الأكملِ لا نَفْيُ الأصلِ، فالرِّبا الأشدُّ في النَّسيئةِ، وذلك لا يَمنَعُ وجودَ رِبًا في غيرِها، فيكون في الفَضْلِ كما في النَّسيئةِ، وإنْ كان في النَّسيئةِ أَشَدَّ.
وفي الحديثِ: حِرْصُ الصَّحابَةِ على العِلْمِ والتَّأكُّدِ مِنْ مَصْدَرِ الفَتْوى ومعرفةِ دَليلِها ووَجْهِها.
وفيه: مُدارَسَةُ العِلْمِ، والاستفسارُ عمَّا أَشْكَلَ فَهْمُهُ.
وفيه: النَّهيُ عن رِبا الفضْلِ والنَّسيئةِ.
وفيه: أنَّ صَفقةَ الرِّبا لا تَصِحُّ.
وفيه: دَليلٌ على أنَّ الأحكامَ الشَّرعيَّةَ لا تُطلَبُ إلَّا مِن الكتابِ أو السُّنَّةِ.
وفيه: تَصويبُ الصَّحابةِ لبَعضِهم فيما أخْطَؤوا فيه.