باب الرجاء 6
بطاقات دعوية
وعن عتبان بن مالك - رضي الله عنه - وهو ممن شهد بدرا، قال: كنت أصلي لقومي بني سالم، وكان يحول بيني وبينهم واد إذا جاءت الأمطار، فيشق علي اجتيازه قبل مسجدهم، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت له: إني أنكرت بصري وإن الوادي الذي بيني وبين قومي يسيل إذا جاءت الأمطار فيشق علي اجتيازه فوددت أنك تأتي فتصلي في بيتي مكانا أتخذه مصلى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «سأفعل» فغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر - رضي الله عنه - بعد ما اشتد النهار، واستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذنت له، فلم يجلس حتى قال: «أين تحب أن أصلي من بيتك؟» فأشرت له إلى المكان الذي أحب أن يصلي فيه، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكبر وصففنا وراءه فصلى ركعتين ثم سلم وسلمنا حين سلم فحبسته على خزيرة تصنع له، فسمع أهل الدار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي فثاب رجال منهم حتى كثر الرجال في البيت، فقال رجل: ما فعل مالك لا أراه! فقال رجل: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «لا تقل ذلك، ألا تراه قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى» فقال: الله ورسوله أعلم أما نحن فوالله ما نرى وده ولا حديثه إلا إلى المنافقين! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله». متفق عليه. (1)
و «عتبان»: بكسر العين المهملة وإسكان التاء المثناة فوق وبعدها باء
موحدة. و «الخزيرة» بالخاء المعجمة والزاي: هي دقيق يطبخ بشحم. وقوله:
«ثاب رجال» بالثاء المثلثة: أي جاؤوا واجتمعوا
النبي صلى الله عليه وسلم كان طيب المعشر، كريم الخلق، إذا دعاه أحد لبى ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وإذا استفتي أفتى بما فيه صلاح السائل دون أن يلحقه ضرر أو مشقة
وفي هذا الحديث يحكي عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه -وكان ممن شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصلي لقومه ببني سالم، وهم بطن من الأنصار، وكان يحول بين منزله ومسجد قومه الذي كان يصلي فيه إماما واد، إذا جاءت الأمطار يجري فيه السيل، فيصعب عليه اجتيازه جهة مسجدهم، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إني أنكرت بصري، يريد به العمى، أو ضعف الإبصار، وإن الوادي الذي بيني وبين قومي يسيل إذا جاءت الأمطار، فيشق علي عبوره إليهم، فصارت عنده مشقتان؛ إحداهما في بصره، والأخرى في المشي عند جريان السيل في الوادي، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيه، فيصلي في موضع في بيته يتخذه موضعا للصلاة بعد ذلك
فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتواضعه واهتمامه بأصحابه وحسن معشره، وذهب إليه صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه في أول النهار بعدما ارتفعت الشمس، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدخول، فأذن عتبان رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل، ولم يجلس حتى بدأ أولا بالذي جاء من أجله، وهو الصلاة في البيت، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتبان: أين تحب أن أصلي من بيتك؟ فأشار عتبان رضي الله عنه إلى المكان الذي يحب أن يصلي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر للصلاة، وصف الحاضرون وراءه صلى الله عليه وسلم، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين
ثم يحكي عتبان رضي الله عنه أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الانتظار، وقدم له طعاما يدعى خزيرا، وهو طعام من لحم ودقيق، فسمع أهل الحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، فجاء رجال منهم، حتى كثر الرجال في البيت، فقال رجل من الحاضرين: ما فعل مالك بن الدخشن؟ لا أبصره، فرد عليه آخر: ذاك منافق لا يحب الله ورسوله! فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول ذلك؛ لأنه يقول: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله تعالى، فرد الرجل: الله ورسوله أعلم، أما نحن، فوالله لا نرى وده ولا حديثه إلا إلى المنافقين. فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله تعالى، وهذه شهادة منه عليه الصلاة والسلام له بإيمانه، نافيا بها تهمة النفاق عنه
قال الصحابي أبو محمد محمود بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه -وهو راوي الحديث عن عتبان رضي الله عنه-: فحدثت بهذا رجالا، فيهم أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه –وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوته التي دخل فيها إلى القسطنطينية وحاصرها، وتوفي فيها ويزيد بن معاوية بن أبي سفيان أمير عليهم من قبل أبيه معاوية رضي الله عنه بأرض الروم- فأنكر أبو أيوب رضي الله عنه القصة، وقال: والله ما أظن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما قلت قط! وقيل في سبب الإنكار من أبي أيوب عليه: إما لأنه كان بين أظهرهم ومن أكابرهم، ولو وقع مثل هذه القصة لاشتهر ولنقلت إليه، وإما لأن ظاهر قوله: «إن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله» ألا يدخل عصاة الأمة النار، وهذا في ظاهره مخالف لآيات وأحاديث؛ منها حديث أبي داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي»، وقيل في دفع التعارض: إن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عتبان محمول على الخلود في النار، وإن المسلمين يدخلون ثم يخرجون بالشفاعة
فأخبر محمود رضي الله عنه أن إنكار أبي أيوب رضي الله عنه عظم عليه وكبر، فنذر إن سلمه الله ولم يقتل في المعركة، أن يسأل عتبان بن مالك رضي الله عنه عن هذا الحديث، إن وجده حيا في مسجد قومه، فرجع محمود فأحرم بحجة أو بعمرة، ثم سار حتى قدم المدينة، فأتى بني سالم، فإذا عتبان بن مالك شيخ قد عمي، يصلي لقومه، فلما سلم من الصلاة سلم عليه، وأعلمه بنفسه، ثم سأله عن ذلك الحديث الذي حدث به وأنكره أبو أيوب رضي الله عنه عليه، فحدثه به عتبان رضي الله عنه كما حدثه به أول مرة، وفي هذا إشارة لتثبته رضي الله عنه فيما يحفظ، وتأكيد لروايته
وفي الحديث: مشروعية صلاة الفريضة في البيت عند العذر.
وفيه: تثبت الصحابة رضي الله عنهم في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيه: فضيلة إكرام الضيف.
وفيه: فضل كلمة «لا إله إلا الله».