باب الرجل يغزو وله أبوان1
سنن ابن ماجه
حدثنا أبو يوسف محمد بن أحمد الرقي، حدثنا محمد بن سلمة الحراني، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق
عن معاوية بن جاهمة السلمي، قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة. قال: "ويحك! أحية أمك؟ " قلت: نعم، قال: "ارجع فبرها".
ثم أتيته من الجانب الآخر، فقلت: يا رسول الله إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: "ويحك! أحية أمك؟ " قلت: نعم، يا رسول الله. قال: "فارجع إليها فبرها".
ثم أتيته من أمامه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة. قال: ويحك! أحية أمك؟ " قلت: نعم، يا رسول الله. قال: "ويحك! الزم رجلها، فثم الجنة"
جعَلَ اللهُ سُبحانَه للأُمِّ نَصيبًا في بِرِّها يُقَدَّمُ على الجِهادِ في سبيلِ اللهِ، مع ما للجِهادِ في سبيلِ اللهِ بكلِّ أنواعِه مِن فَضلٍ عظيمٍ، وثوابٍ كبيرٍ، وهذا مِن عظيمِ حقِّ الأمِّ!
وفي هذا الحديثِ يقولُ مُعاويةُ بنُ جاهِمةَ السُّلميِّ رضِيَ اللهُ عنه: "أتيتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أردتُ الجِهادَ معك أبْتَغي"، أي: أطلُبُ وأرجو، "بذلك وَجْهَ اللهِ والدَّارَ الآخرةَ، فقال له النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "ويْحَك!" وهي كلمةُ ترحُّمٍ وتوجُّعٍ تُقال لِمَن وقَعَ في هَلكةٍ لا يستحِقُّها، "أحيَّةٌ أُمُّك؟"، أي: باقيةٌ على قَيدِ الحياةِ، فقال مُعاويةُ رضِيَ اللهُ عنه: "نعم"، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "ارجِعْ فبِرَّها"، أي: اعمَلْ فيها بأعمالِ البِرِّ والمَعروفِ، قال مُعاويةُ: "ثمَّ أتيتُه من الجانِبِ الآخَرِ"، أي: ليُؤكِّدَ عليه رغبتَه في الخُروجِ إلى الجهادِ، ويُظْهِرَ ما عنده من حِرْصٍ، قال مُعاويةُ: "فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أردتُ الجِهادَ معك أبْتَغي بذلك وَجْهَ اللهِ والدَّارَ الآخرةَ، قال: ويْحَك! أحيَّةٌ أُمُّك؟ قلْتُ: نعم، يا رسولَ اللهِ، قال: فارجِعْ إليها فبِرَّها. ثمَّ أتيتُه مِن أمامه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أردتُ الجهادَ معك أبْتَغي بذلك وَجْهَ اللهِ والدَّارَ الآخرةَ، قال: ويْحَك! أحيَّةٌ أُمُّك؟ قلتُ: نعم، يا رسولَ اللهِ، قال: ويْحَك، الْزَمْ رِجْلَها فثَمَّ الجنَّةُ"، أي: الجَنَّةُ هناك عِندَ رجلِها، والمرادُ: أنَّ نَصيبَك من الجنَّةِ لا يصِلَ إليك إلَّا برِضاها؛ بحيثُ صارتِ الجنَّةُ كشَيءٍ مَملوكٍ لها، وهي قاعدةٌ عليه، تتصرَّفُ فيه كيف تشاء؛ فإنَّ الشَّيءَ إذا صار تحت رِجْلِ أحدٍ، فقد تمكَّنَ منه واستولى عليه، بحيث لا يصِلُ شَيءٌ منه إلى غيرِه إلَّا برِضاه. ولعلَّ رَدَّ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له؛ لأنَّه علِمَ بحاجةِ أُمِّه إليه، ثمَّ بيَّنَ أنَّ بِرَّها له فَضلٌ يُوصِلُ إلى الجنَّةِ مثلُ الجِهادِ في سبيلِ اللهِ. والمُرادُ مِن هذا تَكثيرُ أبوابِ الخيرِ وتَعدُّدُها، وليس حصرَها أو تَضييقَها، وأيضًا فإنَّ بِرَّ الوالدينِ فَرضُ عَينٍ على كلِّ أحدٍ، أمَّا الجِهادُ فهو فرْضُ كِفايةٍ إذا قامَ به البَعضُ سَقطَ عَنِ الكلِّ، ولعلَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ عَلِمَ وُجودَ الكِفايةِ فيمَن خَرجَ غَير هذا الشَّابِ؛ فوجَّهَه إلى بِرِّ أمِّه.