باب الزهد في الدنيا

سنن ابن ماجه

باب الزهد في الدنيا

حدثنا الحسن بن أبي الربيع، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا جعفر ابن سليمان، عن ثابت
عن أنس، قال: اشتكى سلمان، فعاده سعد، فرآه يبكي فقال له سعد: ما يبكيك يا أخي؟ أليس قد صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أليس، أليس؟ قال سلمان: ما أبكي واحدة من اثنتين، ما أبكي صبا للدنيا، ولا كراهية للآخرة، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلينا عهدا، فما أراني إلا قد تعديت، قال: وما عهد إليك؟ قال: عهد إلينا أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب ولا أراني إلا قد تعديت، وأما أنت يا سعد، فاتق الله عند حكمك إذا حكمت، وعند قسمك إذا قسمت، وعند همك إذا هممت. قال ثابت: فبلغني أنه ما ترك إلا بضعة وعشرين درهما، من (1) نفيقة كانت عنده (2)

المسلِم الحَقُّ يَسعى في حياتِه إلى تَحصيلِ تَقوى اللهِ ورِضاه، ويأخُذَ مِن الدُّنيا اليَسيرَ بقدْرِ ما يوصِلُه إلى ربِّه، دونَ أن يَنشَغِلَ عنه بأمورِ الدُّنيا.
وفي هذا الحديثِ يقولُ أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضي اللهُ عنه: "اشتَكى سَلْمانُ" الفارِسيُّ، أي: مرِضَ، "فعادَه سَعدٌ"، أي: زاره سَعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ في مرَضِه هذا، "فرآه يَبكي، فقال له سَعدٌ: ما يُبكيك يا أَخي؟"، أي: ما سبَبُ بكائِك؟ "أليس قد صَحِبْتَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، أَليس؟ أَليس؟"، وهذا مِن باب التَّفريجِ عنه، فقال سَلْمانُ رَضي اللهُ عنه: "ما أبكي واحِدةً مِن اثنتَين"، أي: ليس ما يُبْكيني واحدةً مِن تلك الاثنتَينِ، وخصَّهما بالذِّكرِ؛ لأنَّهما يَكونانِ في العادةِ ممَّا يَشغَلُ المريضَ، "ما أبكي ضَنًّا للدُّنيا"، أي: بُخلًا وخَوْفًا لذَهابِها، "ولا كَراهيةً للآخرَةِ، ولكنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عَهِد إلَيَّ عهْدًا"، أي: أوْصاني وصيَّةً، "ما أُراني إلَّا قد تعَدَّيتُ"، أي: تَجاوزْتُ القدْرَ الَّذي أَوصاني به النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فقال سَعدٌ رَضي اللهُ عنه: "وما عَهِد إليك؟"، قال سَلْمانُ رَضي اللهُ عنه: "عَهِد إليَّ: أنَّه يَكْفي أحدَكم"، أي: في الدُّنيا، "مِثلُ زادِ الرَّاكبِ"، أي: إنَّ الإنسانَ ليس له مِن الدُّنيا إلَّا بمِثلِ ما يَحمِلُ المسافِرُ مِن مَلْبسٍ ومَأْكلٍ يتَقوَّى بهما على سفَرِه، "ولا أُراني إلَّا قد تعدَّيتُ"، أي: تعدَّى ما أوصاه به النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم.
ثمَّ قال سَلْمانُ لسَعدٍ رَضي اللهُ عنهما: "وأمَّا أنت يا سَعدُ، فاتَّقِ اللهَ"، أي: بالخوْفِ منه ومُراعاةِ جَنابِه وعِلْمِه بك وقُدْرتِه عليك، "عند حُكمِك إذا حَكَمتَ"، أي: بالقَضاءِ بين النَّاسِ، "وعند قَسْمِك إذا قَسَمتَ"، أي: عندَ قِسمَةِ الأموالِ، "وعند هَمِّك إذا هَمَمتَ"، أي: وإذا أرَدْتَ أن تفعَلَ شيئًا ونويْتَه، وقد أَوصى سعدٌ بتلك الوصيَّةِ؛ لأنَّ سعْدًا رَضي اللهُ عنه كان له حظٌّ مِن الوِلايةِ والقضاءِ.
وقد ورَد في القرآنِ الإشارةُ إلى مدْحِ الزُّهدِ في الدُّنيا، وإلى ذمِّ الرَّغبةِ فيها، كما في قولِه تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16، 17].
وفي الحديثِ: بيانُ بعضِ فَضائِلِ سَلمانَ الفارسيِّ رضِيَ اللهُ عنه.
وفيه: مواساةُ المريضِ بصالِحِ أعمالِه؛ حتَّى يتفاءلَ ويُحسِنَ الظَّنَّ باللهِ.
وفيه: الدَّعوةُ إلى مُراعاةِ اللهِ وتَقواه في كلِّ الأمورِ في السِّرِّ والعلَنِ.
وفيه: التَّرغيبُ في الزُّهدِ في الدُّنيا، والتقلُّلِ مِن متاعِها.