باب الغيرة 5

سنن النسائي

باب الغيرة 5

أخبرنا قتيبة قال: حدثنا الليث، عن يحيى هو ابن سعيد الأنصاري، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، أن عائشة قالت: التمست رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدخلت يدي في شعره، فقال: «قد جاءك شيطانك» فقلت: أما لك شيطان؟ فقال: «بلى، ولكن الله أعانني عليه فأسلم»

الجِنُّ أجسامٌ ناريَّةٌ قابلةٌ للتَّشكُّلِ بأشكالٍ مُختلفةٍ، وهُم مَخلوقاتٌ غيرُ مَنظورةٍ لنا، وقدْ يُرِيها اللهُ مَن شاءَ مِن خَلْقِه، مُكلَّفونَ مِثلَنا، منهم المؤمنونَ والكافرونَ والعُصاةُ، ومنهم الطَّيِّبُ والخَبيثُ
وفي هذا الحديثِ تَرْوي أمُّ المؤمِنينَ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَرَجَ مِن عندِها ذاتَ مرَّةٍ، فغارَت عَليه، أي: وَجدَتْ في قَلبِها ما تَجِدُه النِّساءُ مِنَ الغَيْرةِ على زَوجِها؛ وذلك لظَنِّها أنَّه ذاهبٌ لإحدى نِسائِه، كما في رِوايةٍ أُخرى لمسْلمٍ، وفي تَمامِ الرِّوايةِ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يَخرُجُ مِن اللَّيلِ فيَذهَبُ إلى البَقيعِ -مقَابرِ المسْلِمين- فيَدْعو لأهلِها، فلمَّا أنْ رَجَع وظَهَر له ما عِندها مِن الغَيرةِ، قال: ما لَكِ يا عائشةُ؟ أَغِرْتِ؟ قالت: وَما لي لا يَغارُ مِثلي؟! أي: في مِثلِ حَالتِي مِن عِظَمِ المحبَّةِ لَكَ، ولَها ضَرائرُ عَلى مَن هو عَلى صِفتِكَ مِنَ النُّبوَّةِ والرِّسالةِ والمنزِلةِ مِنَ اللهِ تَعالَى، فَقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أَقَدْ جَاءكِ شَيطانُك؟ أي: وَسوَسَ لكِ شَيطانُكِ، فقالت مُتعَجِّبَةً: أَوَ مَعي شَيطانٌ؟ قال: نَعمْ، قالت: وَمع كُلِّ إنسانٍ؟ قال: نَعمْ، قالت: ومَعَكَ؟ قال: نَعمْ، وذلك أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بشَرٌ، قال تَعالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110]، فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُخبِرُ بوُجودِ الجِنِّ مِن حَولِنا، وأنَّ منْهم مَن يُسمَّى (القَرينَ)، وُكِّلَ بالإنسانِ فلا يُفارقُه، ويَكيدُ له ليُوقِعَه في الشُّرورِ والآثامِ، وأخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أعانهُ على ذلك الشَّيطانِ وعلى السَّلامةِ مِن شَرِّه ووَساوسِه حتَّى أَسلَمَ. فصار مُسلِمًا مُؤمِنًا بدَعوةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ورِسالتِه، وقدْ ضُبِط اللَّفظُ (فأَسْلَمُ) -بصِيغةِ المضارِعِ- أي: فأسلَمُ أَنا مِنه ومِن مَكرِه ووَسوسَتِه، وأُحفَظُ وأُجارُ مِن شَرِّه وفِتنتِه بعِصمةِ اللهِ تَعالَى
وفي الحديثِ: دَليلٌ عَلى عِصمةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أنْ يُؤثِّرَ فيه الشَّيطانُ بأَذًى في عَقلِه أو قَلبِه بضُروبِ الوَساوسِ
وفيه: كَرامةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ربِّه، وعِنايتُه به؛ حيث سَلَّمَه مِن أذى الشَّيطانِ، فلا يَأمُرُه إلَّا بخيرٍ
وفيه: دَليلٌ عَلى أنَّ الشَّيطانَ له تَأثيرٌ في النُّفوسِ الطَّاهرَةِ الزَّكيَّةِ بالوَسوسَةِ
وفيه: أنَّ الغَيرةَ سَببُها إغراءُ الشَّيطانِ، وتَسلُّطُه على المرأةِ