باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -
بطاقات دعوية
وأن عبد الله بن عمر حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل عند سرحات عن يسار الطريق في مسيل دون هرشى (54)، ذلك المسيل لاصق بكراع هرشى بينه وبين الطريق قريب من غلوة، وكان عبد الله يصلي إلى سرحة هي أقرب السرحات إلى الطريق، وهي أطولهن.
كان الصَّحابةُ رضِيَ اللهُ عنهم أشدَّ الناسِ حِرصًا على اتِّباعِ هَدْيِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في كلِّ أحوالِه، وكان مِن أشدِّهم اتباعًا عبدُ اللهِ بنُ عمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، حتى كان يَجتهِدُ في تَحرِّي الأماكنِ التي صلَّى فيها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أسفارِه، فيُصلِّي فيها تَبرُّكًا وحُبًّا له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي هذا الحديثِ يَصِفُ عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما مَكانًا كان يَنزِلُ به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فيُخبِرُ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نزَلَ عندَ شَجَراتٍ كَبيرةٍ عن يَسارِ الطَّريقِ في مَسيلٍ، وهو المكانُ المنْحَدِرُ، دونَ هَرْشَى وقَريبٌ منه، وهَرْشى: جَبَلٌ في بِلادِ تِهامَةَ، وهو على مُلْتَقًى بطَريقِ الشَّامِ والمدينةِ، وهي مِن الجُحْفةِ يُرى منها البَحْرُ، وهي اليَومُ رابِغٌ، وذلك المُنْحَدَرُ لاصِقٌ بطَرَفِ جَبلِ هَرْشى، وبيْنه وبيْن الطَّريقِ قَريبٌ مِن غَلْوةٍ، والغَلْوةُ غايةُ بُلوغِ السَّهْمِ، أو أمَدِ جَرْيِ الفرَسِ، وهي: ثُلثَا مِيلٍ.وكان عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما يُصَلِّي مُتجِّهًا إلى سَرْحَةٍ، أي: شَجَرةٍ، هي أقْرَبُ الشَّجَراتِ إلى الطَّريقِ، وهي أطوَلُهنَّ. وقد كان ابنُ عُمَرَ مَشْهورًا بتَتبُّعِ آثارِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومِن ذلك صَلاتُه في المواضِعِ التي كان يُصَلِّي فيها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.وهذا يُحْمَلُ عنِ ابنِ عُمَرَ لِمَا عُرِفَ عنه مِن مُبالغتِه في الاتِّباعِ، وقد ورَدَ عن أبيه عُمَرَ بنِ الخطَّاب رَضيَ اللهُ عنه ما يُخالِفُ هذا الأمرَ؛ فإنَّه لَمَّا رأى النَّاسَ في سَفَرٍ مِن مكَّةَ إلى المدينةِ يَتبادَرونَ إلى مكانٍ، سَأَلَ عن ذلك، فقالوا: هذا مَكانٌ قد صلَّى فيه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال لهم: «هكذَا هَلَكَ أهْلُ الكتابِ؛ اتَّخَذُوا آثارَ أنبِيائهِم بِيَعًا، مَن عَرَضَتْ له منكم فيه الصَّلاةُ فلْيُصَلِّ، ومَن لمْ تَعْرِضْ له منكم فيه الصَّلاةُ، فلا يُصَلِّ»، رواهُ عبدُ الرَّزَّاقِ وابنُ أبي شَيبةَ في مُصنَّفَيْهما.وإنَّما أراد عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه بالنَّهْيِ عن تَتبُّعِ آثارِ الأنبياءِ سَدَّ الذريعةِ إلى الشِّرْكِ، وهو أعلَمُ بهذا الشَّأنِ مِن ابنِه رَضيَ اللهُ عنهما، أمَّا الأماكنُ التي نُصَّ على فضْلِ الصَّلاةِ فيها، كالحَرَمينِ والأقْصى وقُباءٍ ونحْوِها، وكذلك قصْدُ المساجدِ عامَّةً بالصَّلاةِ، حتَّى التي وَرَدَ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صلَّى فيها؛ فلا تَدخُلُ تحْتَ هذا النَّهيِ.وقدْ روَى البُخاريُّ عن عَبدِ اللهِ بنِ عمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما تِسعةَ أحاديثَ تُحدِّدُ الأماكنَ التي صلَّى فيها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أسفارِه في الطَّريقِ بيْن المدينةِ ومَكَّةَ، منها هذا الحديثُ. وقيل: إنَّ هذه المساجدَ لا يُعرَفُ اليومَ منها غيرُ مَسجدِ ذي الحُليفةِ، والمساجِدِ التي بالرَّوحاءِ.