باب النهي عن الحلف في المبيع 2
بطاقات دعوية
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا وهو على غير ذلك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها وفى وإن لم يعطه منها لم يف. (م 1/ 72
إلْحاقُ الضَّررِ والأَذى بالنَّاسِ أمْرٌ مُستقبَحٌ في الدُّنيا، وجالبٌ لِصاحِبِه الخُسرانَ والبَوارَ في الآخرةِ.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَن ثَلاثةِ أصنافٍ مِنَ النَّاسِ لا يَنظُرُ اللهُ إليهم يومَ القِيامةِ نَظَرَ رَحْمةٍ وعطْفٍ وإحسانٍ، ولا يُطهِّرُهم مِنَ الذُّنوبِ بالمَغفرةِ، ولا يُثْني عليهم، بلْ يَسخَطُ عليهم ويَنتقِمُ منهم. ولهم منه عَذابٌ أليمٌ مُوجِعٌ بسَببِ ما ارْتَكَبوه.
وهؤلاء الثَّلاثةُ هُم: رَجُلٌ كان له ماءٌ زائدٌ عَن حاجتِه، فلم يَسْقِ منه عابِرَ السَّبيلِ، وهو المسافرُ المُضطرُّ للماءِ لنفْسِه أو حَيوانٍ مُحترَمٍ معه.
والثاني: رجُلٌ بَايَعَ الإمامَ -وهو الخَليفةُ- وعاهَدَه على الطَّاعةِ والسَّمعِ، لكنْ ذلك لم يكُنِ امتثالًا لِأمْرِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ وإنَّما لِيَنالَ مِن عَطاء الخَليفةِ ومَتاعِ الدُّنيا، فإذا أُعطِيَ ما أرادَ رَضيَ به وتابَعَه، وإنْ مُنِعَ سَخِطَ وغضِبَ عليه. وإنَّما استَحقَّ هذا الوعيدَ الشَّديدَ لكَونِه غَشَّ إمامَ المسلمينَ، ومِن لازِمِ غِشِّ الإمامِ غِشُّ الرَّعيَّةِ؛ لِما فيه مِن السَّببِ إلى إثارةِ الفِتنةِ، ولا سيَّما إنْ كان ممَّن يُتَّبَعُ على ذلك.
والثَّالثُ: رجُلٌ يَبيعُ سِلعتَه بعدَ العَصرِ، وأقْسَمَ بِاللهِ أنَّه اشْتَراها بِثَمنٍ مُعيَّنٍ، فصَدَّقَه المُشتري لأجْلِ تلك اليمينِ، وهو كاذِبٌ في يَمينِه، وإنَّما ذَكرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ العصرَ -وإنْ كانت اليمينُ الفاجرةُ مُحرَّمةً كلَّ وقْتٍ- لأنَّ الغالبَ أنَّ مِثلَه يَقَعُ في آخِرِ النَّهارِ حيثُ يُريدُ التَّاجرُ الفَراغَ مِن سِلعتِه. وقيل: خَصَّ وقْتَ العصْرِ بتَعظيمِ الإثمِ فيه؛ لكَونِه وقْتَ نُزولِ الملائكةِ لرَفْعِ أعمالِ النَّهارِ، ثُمَّ قَرأَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ}، أي: يَستبدِلون؛ وذلك لأنَّ المُشترِيَ يَأخُذُ شَيئًا ويُعطي شَيئًا، فكلُّ واحدٍ مِن المُعطى والمأخوذِ ثَمَنٌ للآخَرِ، {بِعَهْدِ اللَّهِ}، أي: بما عاهَدوا عليه مِنَ الإيمانِ بِالرَّسولِ والوَفاءِ بالأماناتِ، {وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} والمرادُ بأيمانِهم: الأيمانُ الكاذبةُ التي يَحلِفُونها ليُؤكِّدوا ما يُرِيدون تَأكيدَه مِن أقوالٍ أو أفعالٍ، والمعْنى: يَستبدِلون بعَهْدِ اللهِ وأيْمانِهم حُظوظَ الدُّنيا وشَهواتِها الزائلةَ نحْوَ المالِ والمنافعِ وغيرِها. ووُصِفَ الثَّمنُ هنا بالقِلَّةِ تَحقيرًا له؛ إذ إنَّه نَظيرُ خِيانةِ عهْدِ اللهِ، والاجتراءِ على اليمينِ الكاذبةِ، فلا يكونُ إلَّا قَليلًا وإنْ بَلَغَ ما بَلَغَ مِن أعراضِ الدُّنيا، بجانبِ رِضا اللهِ والوَفاءِ بعُهودِه. ثمَّ ذَكَرَ سُبحانه عُقوبةَ مَن تَلبَّسَ بهذه الكبيرةِ فقال: {أَولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ}، أي: لا حَظَّ ولا نَصيبَ، {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77].
وذِكرُ هؤلاء الأصنافِ الثَّلاثةِ في هذا الحديثِ لا يَعْني الحصْرَ، ولا يَمنَعُ مِن وُجودِ أصنافٍ أُخرى استَحقَّت نفْسَ العَذابِ، كالمُسبِلِ، والمَنَّانِ، كما في صَحيحِ مُسلمٍ مِن حَديثِ أبي ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه، والشَّيخِ الزَّاني، والمَلِكِ الكذَّابِ، والفقيرِ المُستكبِرِ، كما في صَحيحِ مُسلمٍ مِن حَديثِ أبي هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه.
وفي الحديثِ: إثباتُ صِفةِ الكلامِ والنظر للهِ عزَّ وجلَّ على الوجْهِ اللَّائقِ به جلَّ جَلالُه، مِن غَيرِ تَشبيهٍ ولا تَمثيلٍ ولا تَكييفٍ؛ فإنْ لم يُكلِّمِ الأصنافَ الثَّلاثةَ ولم يَنظُرْ إليهم، فهو يُكلِّمُ غيرَهم ويَنظُرُ إليهم.