باب بأي شيء تستفتح صلاة الليل 2
سنن النسائي
أخبرنا محمد بن سلمة، قال: أنبأنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حميد بن عبد الرحمن بن عوف، أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت وأنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لأرقبن رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة حتى أرى فعله، فلما صلى صلاة العشاء وهي العتمة، اضطجع هويا من الليل، ثم استيقظ فنظر في الأفق، فقال: " {ربنا ما خلقت هذا باطلا} [آل عمران: 191] حتى بلغ {إنك لا تخلف الميعاد} [آل عمران: 194]، ثم أهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فراشه، فاستل منه سواكا، ثم أفرغ في قدح من إداوة عنده ماء فاستن، ثم قام فصلى حتى قلت: قد صلى قدر ما نام، ثم اضطجع حتى قلت: قد نام قدر ما صلى، ثم استيقظ ففعل كما فعل أول مرة، وقال مثل ما قال، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قبل الفجر "
الصَّحابةُ رَضِي اللهُ عَنهم أفضَلُ هذه الأمَّةِ؛ فهُم الَّذين جاهَدوا في اللهِ تعالى حتَّى نشَروا هذا الدِّينَ في مَشارقِ الأرضِ ومَغاربِها، وهم مَن نقَلوا لنا سُنَّةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، وبلَّغوا لنا دينَه
وفي هذا الحديثِ المرويِّ عن رجلٍ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، قيل: إنَّه زيدُ بنُ خالدٍ الجُهَنيُّ، يَقولُ: "قلتُ" في نَفْسي، "وأنا في سفَرٍ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم"؛ لغَزوٍ أو حجٍّ أو عُمرةٍ أو غيرِ ذلك: "واللهِ لأَرقُبَنَّ"، أي: لأحفَظنَّ ولأَنظُرَنَّ، "رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لِصلاةٍ"، أي: لأجلِ صلاةٍ يُصلِّيها، "حتَّى أرى فِعلَه!"، أي: كيفيَّةَ صَلاتِه، حتَّى أقتَدِيَ به وأفعَلَ مِثلَه، أو لأنتَظِرنَّ وقْتَ صَلاتِه في اللَّيلِ، فأنظُرُ ماذا يَفعَلُ فيه لأقتدِيَ به، "فلمَّا صلَّى صلاةَ العِشاءِ، وهي العتَمةُ"، أي: شدَّةُ ظُلمةِ اللَّيلِ بعدَ غِيابِ الشَّفقِ، وقد ورَد النَّهيُ عن تَسْميةِ العِشاءِ بالعتَمةِ، ولكنِ استَخدَمها النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في بعضِ كلامِه، فقيل: لأنَّهم كانوا يُسمُّون صلاةَ المغرِبِ بالعشاءِ، وصلاةَ العشاءِ بالعَتمةِ تسميةً بالوقتِ، فاقتَضى ذلك التَّوضيحَ بلِسانِهم أحيانًا، وقيل: استَخدَمها لِبيانِ عدمِ الحرَجِ في ذِكْرِها، لكنَّه خِلافُ الأَوْلى، "اضطَجَع"، أي: رقَد ونام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "هَوِيًّا"، أي: وقتًا طويلًا مِن اللَّيلِ، "ثمَّ استيقَظ" رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، وانتبَه مِن نَومِه، "فنظَر في الأُفقِ"، أي: نظَر ناحيةَ السَّماءِ، "فقال"، أي: قرَأ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عندما نظَر إلى الأفقِ، وشاهَد مخلوقاتِ اللهِ تعالى فيه: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191]، أي: لم تَخلُقْ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ عبَثًا، بل خلَقتَها بالحقِّ وللحقِّ؛ لِتَجزيَ الَّذين أساؤوا بما عَمِلوا، وتَجزِيَ الَّذين أحسَنوا بالحُسنى، "حتَّى بلَغ"، أي: وصَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، وانتهى في قِراءتِه إلى قولِه تعالى: {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 194]، أي: لا بدَّ مِن الميعادَ الَّذي أخبَرتَ عنه رُسلَك، وهو القيامُ يومَ القيامةِ بينَ يدَيْك، "ثمَّ أهوى رسولُ اللهِ"، أي: مال ومَدَّ يدَه، "إلى فِراشِه" الَّذي كان يَنامُ عليه، "فاستَلَّ"، أي: أخَذ وأخرَج وانتزَع برِفْقٍ، "منه"، أي: مِن فِراشِه، "سِواكًا"، وهو العودُ مِن الأَراكِ، الَّذي يُدلَكُ به الأسنانُ للتَّنظيفِ، "ثمَّ أفرَغ"، أي: صَبَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، في "قَدَحٍ"، وهو وعاءٌ يُشرَبُ به قد يَرْوي رَجُلَين، "مِن إداوةٍ"، أي: صبَّ مِن إداوةٍ، وهي إناءٌ صغيرٌ مِن جِلدٍ، "عِندَه ماءٌ"، أي: لِيَتوضَّأَ به، ويَبُلَّ به السِّواكَ، "فاستَنَّ"، أي: دلَك أسنانَه بالسِّواكِ مع الوُضوءِ، "ثمَّ قام" رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "فصلَّى" ما شاء اللهُ مِن عدَدِ الرَّكعاتِ وطولِها، "حتَّى قلتُ"، أي: قال هذا الصَّحابيُّ الَّذي يَنظُرُ إلى صلاةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في نفسِه: "قد صلَّى"، أي: رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "قَدْرَ ما نام"، أي: مِقْدارَ ما نامه مِن الوقتِ، "ثمَّ اضطجَع"، أي: نام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بعدَ أنِ انتَهى مِن صَلاتِه، "حتَّى قلتُ"، أي: قال هذا الصَّحابيُّ الَّذي يَنظُرُ إلى صلاةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في نفسِه: "قد نام" رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "قدْرَ ما صلَّى"، أي: مِقدارَ ما صلَّى مِن الوقتِ، "ثمَّ استيقَظ" رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مِن نومِه بعدَ ذلك، "ففعَل كما فعَل أوَّلَ مرَّةٍ"، مِن التَّسوُّكِ والوضوءِ والصَّلاةِ، "وقال مِثلَ ما قال"، مِن قراءةِ الآياتِ المذكورةِ، "ففَعَل رسولُ اللهِ ثلاثَ مرَّاتٍ قبلَ الفجرِ"، أي: ما ذكَر مِن القولِ والفعلِ، ومِن النَّومِ واليَقظةِ قبلَ طُلوعِ الفجرِ والاستعدادِ لِصَلاةِ الفجرِ
وهذا مِن تقسيمِ أجزاءِ اللَّيلِ إلى أقسامٍ، فيَجعَلُ بعضَه للصَّلاةِ، وبعضَه للاستراحةِ، حتَّى تأخُذَ النَّفسُ حظَّها مِن الرَّاحةِ، كما جعَل الشَّارعُ لها ذلك، حيث قال: "فإنَّ لنَفسِك عليك حقًّا"، فينبَغي إعطاءُ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه
وفي الحديثِ: الحِرْصُ على قيامِ اللَّيلِ حتَّى في السَّفرِ
وفيه: تعاهَدُ نظافةِ الأسنانِ بالسِّواكِ، خاصَّةً عند القيامِ مِن اللَّيلِ
وفيه: حِرصُ الصَّحابةِ على مُتابَعةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في العبادةِ