باب تأليف القرآن
بطاقات دعوية
قال يوسف بن ماهك: إنى عند عائشة أم المؤمنين - رضى الله عنها -؛ إذ جاءها عراقى، فقال: أى الكفن خير؟ قالت: ويحك! وما يضرك؟! قال: يا أم المؤمنين! أرينى مصحفك. قالت: لم؟ قال: لعلي أولف القرآن عليه؛ فإنه يقرأ غير مؤلف. قالت: وما يضرك أيه قرأت قبل؟! إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام؛ نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر؛ لقالوا: لا ندع الخمر أبدا! ولو نزل: لا تزنوا! لقالوا: لا ندع الزنى أبدا! لقد نزل بمكة على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنى لجارية ألعب: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} , وما نزلت سورة {البقرة} و {النساء} إلا وأنا عنده. قال: فأخرجت له المصحف، فأملت عليه آى السور.
كانت أمُّ المؤمنين عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها من أكثَرِ الصَّحابةِ عِلمًا، وكان التابعون يحرِصون على التلقِّي والأخذِ عنها، وكانت تُبَيِّنُ لهم الغامِضَ من الأمورِ.
وفي هذا الحَديثِ يروي التابعيُّ يُوسُفُ بْنُ مَاهَك أنَّه كان عند عائشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْها ذاتَ مَرَّةٍ، فجاءها رجُلٌ مِن أهلِ العِراقِ يَسْأَلُها: «أيُّ الكَفَنِ خَيرٌ؟» يَحتمِلُ أنْ يَكونَ سُؤالُه عن الكَمِّ، أو عنِ الكيفِ، يعني أبيَضَ أو غيرَه، وناعِمًا أو خشِنًا، أو عن النَّوعِ أنَّه قُطنٌ أو كَتَّانٌ مثلًا؟ فقالَت له مُتعجِّبةً: «وَيْحَك! وما يَضَرُّك؟» أي: أَيُّ شَيءٍ يَضُرُّك بعْدَ مَوتِك وسُقوطِ التَّكليفِ عنكَ في أيِّ كَفنٍ كُفِّنتَ؟
ثمَّ طلب منها الرَّجُلُ أن تُرِيَه مُصحَفَها، فسألَتْه عن السَّبَبِ، فقال: «لعلِّي أُؤلِّف»، أي: أُرتِّبَ القُرآنَ عليه؛ «فإنَّه يُقرأ غيرَ مؤلَّفٍ، فقالت: وما يَضُرُّكَ» أيَّ آياتِ القرآنِ قرَأتَ قبْلَ الأخرى. ولعلَّ هذا العراقيَّ كان ممَّن أخَذَ بقِراءةِ ابنِ مَسعودٍ الذي لم يُوافِقْ على الرُّجوعِ عن قِراءتِه ولا على إعدامِ مُصحَفِه، وكان تَأليفُ مُصحَفِ العراقيِّ مُغايرًا لتَأليفِ مُصحفِ عُثمانَ؛ فلذلك جاءَ إلى عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها وسَألَ الإملاءَ مِن مُصْحفِها، ثمَّ قالت: «إنَّما نَزَلَ أوَّل ما نَزَل منه»، أي: مِن القُرآنِ «سُورةٌ من المُفَصَّلِ، فيها ذِكرُ الجنَّةِ والنَّارِ»، والثابِتُ أنَّ أوَّلُ ما نَزَل على الإطلاقِ سورةُ (اقْرَأ)، وفيها ذِكْرُ الجنَّةِ والنَّارِ، «حتَّى إذا ثابَ»، أي: رَجَع «النَّاسُ إلى الإسلامِ» واطمَأنَّت نُفوسُهم عليه، وتَيقَّنوا أنَّ الجنَّةَ للمُطيعِ والنَّارَ للعاصي «نزَلَ الحَلالُ والحَرامُ»، فأشارتْ بذلك إلى الحِكمةِ الإلهيَّةِ في تَرتيبِ التَّنزيلِ، وأنَّه أوَّلُ ما نَزَل مِن القُرآنِ الدُّعاءُ إلى التَّوحيدِ، والتَّبشيرُ للمُؤمنينَ والمُطيعينَ بالجنَّةِ، والإنذارُ والتَّخويفِ للكافرينَ بالنَّارِ، فلمَّا اطمأنَّت النَّفوسُ على ذلكَ أُنزِلَت الأحكامُ؛ ولهذا قالَت: «وَلو نَزَلَ أوَّلَ شَيءٍ: لا تَشرَبوا الخَمرَ، لَقالوا: لا نَدَعُ الخَمْرَ أبَدًا، ولو نَزَلَ: لا تَزْنُوا، لَقالوا: لا نَدَعُ الزِّنَا أبَدًا»؛ وذلك لانطباعِ النُّفوسِ بالنُّفرةِ عَن تَركِ المَألوفِ، فتدَرَّج التنزيلُ والتشريعُ حتى استقَرَّ الإيمانُ في القلوبِ، فلمَّا امتلأت قلوبُهم بنورِ الإيمانِ نزل التحريمُ والتحليلُ والأحكامُ، فأسرع المؤمنون إلى تنفيذِ أوامِرِ اللهِ.
ثُمَّ قالَت عائِشةُ رضِيَ اللهُ عنها: «لَقَد نَزَلَ بمَكَّةَ» الوَحيُ «على مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإنِّي لَجاريةٌ»، أي: طِفلةٌ صَغيرةٌ «أَلعَب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]»؛ إشارةً منها إلى تَقويةِ ما ظَهَرَ لها مِن الحِكمةِ المَذكورةِ، وهو تَقدُّمُ سُورةِ القَمرِ ولَيس فيها شَيءٌ مِن الأحكامِ على نُزولِ سُورة البَقرةِ والنِّساءِ مَع كَثرةِ اشتِمالِهما على الأحكامِ.
ثم قالت: «ما نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ والنِّسَاءِ إلَّا وأَنَا عِنْدَهُ» تَعني: بالمَدينةِ؛ لأنَّ دُخولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم علَيها إنَّما كانَ بعْدَ الهِجرةِ، وأَرادَت بذلِك تَأخُّرَ نُزولِ الأحكامِ.
ثُمَّ أَخرَجت عائِشةُ رضِيَ اللهُ عنها للسَّائلِ العِراقيِّ المُصحَفَ، فأَمْلَتْ عليه آيَ السُورةِ، أي: آياتِ كُلِّ سُورةٍ.
وفي الحَديثِ: فضْلُ أمِّ المؤمنينَ عائشةَ رضِيَ الله عنها، وعَظيمُ فِقهِها وعِلْمِها.