باب ثناء الناس على الميت
بطاقات دعوية
عن أبي الأسود قال: قدمت المدينة وقد وقع بها مرض، [وهم يموتون موتا ذريعا 3/ 149]، فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمرت بهم جنازة، فأثني على صاحبها خيرا، فقال عمر رضي الله عنه: وجبت، ثم مر بأخرى، فأثني على صاحبها خيرا، فقال عمر رضي الله عنه: وجبت، ثم مر بالثالثة، فأثني على صاحبها شرا، فقال: وجبت، فقال أبو الأسود: فقلت: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة". فقلنا: وثلاثة؟ قال: "وثلاثة"، فقلنا: واثنان؟ قال: "واثنان". ثم لم نسأله عن الواحد
اصطَفَى اللهُ تعالَى هذه الأُمَّةَ بِأنْ أرسلَ إليها خاتَمَ الْمُرسَلِينَ وسيِّدَ النبيِّينَ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وجعَلَهم -وخُصوصًا صَحابتَه الكِرامَ- شُهداءَه في الأرضِ، كما جعَلَهم يومَ القِيامةِ شُهداءَ على الناسِ؛ فيَشهَدونَ للأنبياءِ إذا ادَّعتْ أُممُهم أنَّهم لم يَقوموا بِتبليغِ رِسالاتِ رَبِّهم.
وفي هذا الحَديثِ يخبِرُ التابعيُّ أبو الأَسْودِ الدُّؤَليُّ أنَّه قَدِم المَدينةَ وقدْ وقَعَ بها مَرضٌ، وهو كِنايةٌ عن كثرةِ المَوتَى كما سيأتي في الحديثِ، فجَلَس إلى عُمرَ بنِ الخَطَّابِ رَضي اللهُ عنهُ، فمَرَّت بِهم جِنازةٌ محمولةٌ لتُدفَنَ -والجنازةُ اسمٌ للمَيتِ في النعشِ- فأَثنَوْا على صاحبِها بِالخَيرِ الَّذي يَعرِفونَه مِن حالِه، فقالَ عُمرُ: وَجبَتْ، ثُمَّ مُرَّ عليهم بِجَنازةٍ ثانِيةٍ، فأُثنيَ على صاحِبِها خَيرًا، فقالَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عَنه: وَجبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بالثَّالثةِ فأُثنِيَ على صاحِبِها شَرًّا، فذكروا ما فيه مِن الشَّرِّ وما كان يُشتهَرُ منه بأوْصافٍ وأخْلاقٍ ذَميمةٍ، فقالَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عَنه: وَجبَتْ، فسَأله أبو الأَسوَدِ: ما مَعْنى الوُجوبِ فيهِم مع اختِلافِ الثَّناءِ بِالخَيرِ والشَّرِّ؟ فأخبَرَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّه سَأل النبيَّ صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ عن مِثلِ ذلك، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أَيُّما مُسلمٍ شَهِدَ لَه أَربعةٌ بِخَيرٍ، أَدخَلَه اللهُ الجنَّةَ، فأيُّ إِنسانٍ ماتَ على الإِسلامِ، وأَثْنى عليه أَربعةٌ مِنَ المُسلمينَ مِن أَهلِ الفَضلِ والصِّدقِ بِما يَعرِفونَه عنه مِنَ الأعمالِ الصَّالحةِ الَّتي كان يَفعلُها؛ فإنَّه يُرجى لَه الجنَّةُ، فسَأله عُمرُ وغَيرُه مِنَ الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عَليهِم: وثَلاثةٌ؟ فقالَ صلَّى اللهُ عَليه وسلَّم: كَذلكَ إذا شَهِدَ له ثَلاثةٌ، فقُلْنا: واثْنانِ؟ قالَ: واثْنانِ. ثُمَّ لَمْ يَسألوا النبيَّ صلَّى اللهُ عَليه وسَلَّم عن ثَناءِ الشَّخصِ الواحِدِ؛ لأَنَّ هذا المَقامَ مَقامٌ عَظيمٌ، لا يُكتفَى فيه بأقَلَّ مِن نِصابِ الشَّهادةِ.
وفي هذا الحديثِ جَعَلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شَهادةَ أصْحابِه لأحَدٍ بالجنَّةِ أو النارِ دليلًا على وُجوبِها، ومَعْنى وُجوبِ الجنَّةِ لأحَدٍ ثُبوتُها له؛ إذِ الثُّبوتُ هو في صِحَّةِ الوُقوعِ كالشَّيْءِ الواجِبِ، والأصْلُ أنَّه لا يَجِبُ على اللهِ شَيْءٌ، بل الثَّوابُ فضْلُه، والعِقابُ عَدْلُه، لا يُسْأَلُ عمَّا يَفعَلُ، على أنَّ هذا الثَّناءَ بالخيْرِ أو الشَّرِّ لمن أَثْنَى عليه الناسُ فكان ثَناؤُهُم مُطابِقًا لأفْعالِ مَنْ أَثْنَوْا عليه، فإنْ لم يكُنْ كذلك فليس هو مُرادًا بالحديثِ.
وقد قيل: إنَّ المُخاطَبينَ بذلك هُمُ الصَّحابةُ، ومَن كان على صِفَتِهِم من الإيمانِ؛ لأنَّهم يَنْطِقون بالحِكْمةِ، ويَختَصُّ ذلك بالثِّقاتِ والمتَّقينَ.
وفي الحديثِ: أنَّ المُسلِمين إذا شَهِدوا بالخيرِ للمَيتِ، فقد أثْبَتوا له الحقَّ بالجنَّةِ.
وفيه: التَّنبيهُ على الإحسانِ إلى النَّاسِ، وإظْهارِ الخيرِ للمُسلِمينَ، وعدَمِ إظْهارِ السُّوءِ.