باب حسن المعاشرة مع الأهل
بطاقات دعوية
عن عائشة قالت (36): جلس إحدى عشرة امرأة، فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا.
قالت الأولى: زوجى لحم جمل غث (37) على رأس جبل، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل.
قالت الثانية: زوجى لا أبث خبره، إنى أخاف أن لا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره.
قالت الثالثة: زوجى العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق.
قالت الرابعة: زوجى كليل تهامة، لا حر، ولا قر، ولا مخافة، ولا سآمة. قالت الخامسة: زوجى إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد.
قالت السادسة: زوجى إن أكل لف، وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث.
قالت السابعة: زوجى غياياء -أو عياياء- طباقاء، كل داء له داء، شجك أو فلك أو جمع كلا لك.
قالت الثامنة: زوجى المس مس أرنب، والريح ريح زرنب.
قالت التاسعة: زوجى رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد.
قالت العاشرة: زوجى مالك، وما مالك؟ مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، وإذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك.
قالت الحادية عشرة: زوجى أبو زرع، فما أبو زرع؟ أناس من حلى أذنى، وملأ من شحم عضدى، وبجحنى (38) فبجحت إلى نفسى، وجدنى فى أهل غنيمة بشق (39)، فجعلنى فى أهل صهيل (40) وأطيط ودائس ومنق، فعنده أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقنح [قال أبو عبد الله: 655 - وقال بعضهم: فأتقمح؛ بالميم، وهذا أصح]. أم أبى زرع، فما أم أبى زرع؟ عكومها رداح، وبيتها فساح. ابن أبى زرع، فما ابن أبى زرع؟ مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة. بنت أبى زرع، فما بنت أبى زرع؟ طوع أبيها، وطوع أمها، وملء كسائها، وغيظ جارتها. جارية أبى زرع، فما جارية أبى زرع؟ لا تبث حديثنا تبثيثا، ولا تنقث ميرتنا تنقيثا، ولا تملأ (656 - وفي رواية معلقة: ولا تعشش (41)) بيتنا تعشيشا. قالت: خرج أبو زرع والأوطاب (42) تمخض، فلقى امرأة معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقنى، ونكحها، فنكحت بعده رجلا سريا، ركب شريا (43)، وأخذ خطيا، وأراح على نعما ثريا، وأعطانى من كل رائحة زوجا، وقال: كلى أم زرع، وميرى أهلك. قالت: فلو جمعت كل شيء أعطانيه؛ ما بلغ أصغر آنية أبى زرع.
قالت عائشة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
«كنت لك كأبى زرع لأم زرع» {44}.
وَفاءُ كلٍّ من الزَّوجَينِ للآخَرِ وحُسنُ المعاشَرةِ بينهما، من الأخلاقِ الإسلاميَّةِ العظيمةِ التي حثَّ عليها الإسلامُ، وطَبَّقها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكانت حياتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أروعَ نموذجٍ في هذا الميدانِ.
وفي هذا الحديثِ تقُصُّ أمُّ المؤمنينَ عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها قِصَّةَ إحْدَى عَشْرةَ امرأةً اجتمَعْنَ في مجلِسٍ، وكان اجتماعُهنَّ وجُلوسُهنَّ بقَريةٍ مِن قُرى اليَمَنِ، أو بمكَّةَ، «تعاهدْنَ وتَعاقدْنَ»، أي: أَلْزَمْنَ أنْفُسَهنَّ عهْدًا وعقَدْنَ على الصِّدقِ مِن ضَمائرِهنَّ عقْدًا ألَّا يَكتُمْنَ مِن أخبارِ أزواجِهنَّ شيئًا.
فقالتِ المرأةُ الأُولى تَصِفُ زوْجَها: «زَوجي لَحْمُ جملٍ غَثٍّ»، أي: إنَّه مِثلُ لحمِ الجَملِ شَديدِ الهُزالِ، «على رأسِ جَبلٍ»، وهذا الجبلُ «لا سهْلٌ فيُرتقى»؛ لأنَّه كثيرُ الصُّخورِ، ولا اللَّحمُ «سَمينٌ فيُنتَقَلُ»، أي: يُتَحمَّلُ مِن أجْلِه الصِّعابُ لِنقلِه. فهي غيرُ راضيةٍ عن زَوْجِها لسُوءِ خُلُقِه وغِلظةِ طباعِه، فهي تُشَبِّهُه بلَحمِ الجَملِ الذي تعافُه النَّفسُ، وتُشَبِّهُ سُوءَ خُلُقِه بالجَبَلِ الوَعْرِ، فليتَه كان مع غثاثَتِه مُتاحًا سَهْلَ المُرتقى، بل هو على رأسِ جبلٍ صَعبِ المطلَعِ، وفي الوقتِ نَفْسِه لا يستحِقُّ هو أن يُتحَمَّلَ مِن أجلِه المشاقُّ للوُصولِ إليه!
وقالتِ المرأةُ الثَّانيةُ: «زَوْجي لا أَبُثُّ خَبَرَه»، أي: لا أُفْشي وأُذيعُ أخبارَه وصِفتَه، «إنِّي أخافُ ألَّا أذَرَه»، أي: أخافُ إنْ بدَأتُ في ذِكْرِ صِفتِه وخبرِه ألَّا أتْرُكَ مِن خَبرِه شيئًا؛ لطُولِه وكثرتِه -تعني: كثرةَ عُيوبِه ومَساوِئِه- فلا أستطيعُ إيفاءَ ذِكرِه، «إنْ أذْكُرْه أذْكُرْ عُجَرَه وبُجرَه»، وأصلُ العُجَرِ هو: انتفاخُ العُروقِ في الرَّقبةِ، والبُجَرُ: انتفاخُ السُّرَّةِ، فكأنَّها قالت: له عُيوبٌ ظاهرةٌ وباطنةٌ، فكنَّتْ عَنِ العيوبِ الظَّاهرةِ بالعُجَرِ الَّذي هو انتفاخُ العروقِ، وله عيوبٌ خَفيَّةٌ لا تَعرِفُها إلَّا المرأةُ، وكنَّتْ عنها بِالبُجَرِ الَّذي هو انتفاخُ السُّرَّةِ.
وقالتِ المرأةُ الثَّالثةُ: «زَوْجي العَشنَّقُ»، وهو الطَّويلُ، ومعناهُ: ليس فيه أكْثرُ مِن طُولٍ بلا نفْعٍ، «إنْ أنْطِقْ أُطلَّقْ، إنْ أسْكُتْ أُعلَّقْ»، أي: إنَّها إنْ نطَقَتْ وتَكلَّمتْ بشَيءٍ وبلَغَه ذلك فإنَّه سيُطلِّقُها، وإنْ سَكَتتْ عن عُيوبِه فإنَّها عندَه كالمعلَّقةِ لا ذاتَ زَوجٍ، ولا مُطَلَّقةً.
وقالتِ المرأةُ الرَّابعةُ: «زَوْجي كَلَيلِ تِهامةَ»؛ تُريدُ أنَّه ليْس فيه أذًى، بلْ راحةٌ ولَذاذةُ عيْشٍ كَليلِ تِهامةَ، لَذيذٌ مُعتدِلٌ، ليس فيه حَرٌّ مُفرِطٌ ولا بَردٌ مُفرِطٌ، وتِهامةُ هو السَّهلُ السَّاحِليُّ للبَحرِ الأحمَرِ مِن الجانِبِ الآسيويِّ. «ولا مَخافةَ ولا سآمةَ»، أي: لا أخافُ منه لِكرمِ أخلاقِه، ولا يَسأمُني ولا يَستثْقِلُ بي فيَمَلُّ صُحبتِي، وليس بِسيِّئِ الخُلقِ فأسْأمَ مِن عِشرتِه.
وقالتِ المرأةُ الخامسةُ: «زَوْجي إنْ دَخلَ فَهِدَ، وإنْ خرَجَ أَسِدَ»، أي: إنَّه إذا دَخَلَ البيتَ كان كَالفْهدِ في كَثرةِ نومِه، تُريدُ أنَّه يَنامُ ويَغفُلُ عَن مَعايبِ البيتِ الَّذي يَلزمُني إصلاحُه، أو يَغفُلُ عن تعَهُّدِ ما ذهب من متاعِه ومالِه في بيتِه وما بَقِيَ، فلا يُحاسِبُها على القليلِ والكثيرِ. وإذا كان خارجَ البيتِ كان كالأَسدِ في شَجاعتِهِ وقوَّتِه وغَضبِه، تُريدُ أنَّه يكونُ معها لطيفًا، ويكونُ خارجَ البيتِ شُجاعًا قويًّا غاضبًا. «ولا يَسألُ عما عَهِدَ»، أي: لا يَسالُها عمَّا ترَكَه في البيتِ مِن مالٍ ونحوِه؛ لِتمامِ كَرمِه.
وقالتِ المرأةُ السَّادسةُ: «زَوجي إنْ أكَلَ لَفَّ»، أي: إنَّه يأكُلُ بِشَراهةٍ، فلا يَترُكُ شيئًا مِنَ الطَّعامِ، فاللَّفُّ في الطَّعامِ: الإكثارُ منه مع التخليطِ من صنوفِه حتى لا يبقى منها شيءٌ. وكذا إنْ شَرِبَ اشتَفَّ، وهو الَّذي لا يَترُكُ شيئًا في الإناءِ، فالاشتفافُ مأخوذٌ مِنَ الشُّفافةِ، وهي ما بَقِيَ في الإناءِ مِن الشَّرابِ. وإذا نامَ الْتَفَّ في ثِيابِه وحْدَه في ناحيةٍ مِنَ البيتِ وانقَبَضَ عنها، فهي مُكْتَئِبةٌ لذلك، «ولا يُولِجُ الكفَّ لِيَعلَمَ البثَّ»، أي: لا يُدخِلُ كَفَّه داخلَ ثَوبِي؛ ليَعلَمَ الحُزنَ الَّذي عندي؛ لعدمِ اهتمامِه وقُرْبِه منها، فهو لا يمسُّها ولا يلاطِفُها ولا يُسامِرُها، ولا يُشبِعُ حاجَتَها، ولا تشكو بَثَّها وحُزنَها. فجَمَعت في ذَمِّها له بين اللؤمِ والبُخلِ وسُوءِ العِشرةِ مع أهْلِه، وقِلَّةِ رغبَتِه في النِّكاحِ مع كثرةِ شَهوتِه في الطَّعامِ والشَّرابِ، وهذا غايةُ الذَّمِ عند العَرَبِ؛ فإنَّها تَذُمُّ بكثرةِ الطَّعامِ والشَّرابِ، وتتمدَّحُ بقِلَّتِهما وكَثرةِ الجِماعِ؛ للدَّلالةِ على صِحَّةِ الذُّكوريَّةِ والفُحوليَّةِ. وقيل: في قَولِها: «ولا يُولِجُ الكَفَّ» إنَّه كان في جَسَدِها عَيبٌ، فكان لا يُدخِلُ يَدَه في ثوبِها لِيَلمَسَ ذلك العيبَ؛ لئلا يشُقَّ عليها، فمدحَتْه بذلك. فجمَعَت له الذَّمَّ في الطَّعامِ والشَّرابِ والمنامِ، ومدحَتْه في عَدَمِ إحراجِه لها بعَيبِها.
وقالتِ المرأةُ السَّابعةُ: «زوْجي غَياياءُ»، أي: إنَّه مُغَطًّى عليه مِن جَهْلِه، من الغَيِّ الذي هو الخَيبةُ. أو قالت: «عَياياءُ» مِنَ العِيِّ، وهو العَجزُ، وقيل: هو العِنِّينُ الذي تَعيِيه مجامَعةُ النِّساءِ ويَعجِزُ عنها. «طَباقاءُ»، أي: الغَبِيُّ الأحمقُ، وقيل: الذي يَعجِزُ عن الكلامِ فتَنطَبِقُ شَفَتاه. «كلُّ داءٍ له داءٌ»، أي: كُلُّ ما تَفرَّقَ في النَّاسِ مِن داءٍ -يعني: مَعايِبَ- اجتَمَعَ فيه. «شجَّكِ أو فلَّكِ أو جمَعَ كُلًّا لكِ»، معناه: أنَّها إذا مازحتْه شجَّها في رأسِها، وإذا أغضبَتْه كَسرَ عُضوًا مِن أعضائِها أو شقَّ جِلْدَها، أو جمَعَ كلَّ ذلك مِنَ الضَّربِ والجرْحِ وكسْرِ العضوِ ومُوجِعِ الكلامِ.
وقالتِ المرأةُ الثَّامنةُ: «زَوْجي المسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ، والرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ»، وصَفَتْه بأنَّه ناعمُ الجِلدِ كنُعومةِ وبَرِ الأرنبِ، وقيل: المرادُ بقَولِها مَسُّ أرنَبٍ: لِينُ الجانِبِ وكَرَمُ الخُلُقِ. وأنَّه طيِّبُ العَرَقِ؛ لنظافتِه واستعمالِه الطِّيبِ، والزَّرنبُ: طِيبٌ أو شجرٌ طيِّبُ الرَّائحةِ.
وقالتِ المرأةُ التَّاسعةُ: «زَوْجي رَفيعُ العِمادِ» وهو العمودُ الَّذي يُدعَّمُ به البيتُ، تَعني: أنَّ البيتَ الَّذي يَسكُنُه رَفيعُ العِمادِ؛ لِيَراه الضِّيفانُ وأصحابُ الحوائجِ، وقيل: قصَدَت برَفيعِ العِمادِ وَصْفَه بالشَّرَفِ وسَناءِ الذِّكْرِ، أي: بَيْتُه في الحَسَبِ رَفيعٌ في قَومِه. «طَويلُ النِّجادِ»، أي: طَويلُ القامةِ، «عَظيمُ الرَّمادِ»؛ لأنَّ نارَه لا تُطفَأُ؛ لِتَهتديَ الضِّيفانُ إليها فَيَصيرَ رَمادُها كثيرًا، وهذا يدُلُّ على كَرمِه، «قَريبُ البيتِ مِنَ النَّادِ»، والنادِي: هو مَجلِسُ القومِ، أي: إنَّ قَومَه إذا تَشاوَروا في أمرٍ اعتَمَدوا على رأْيِه، وقيل: وصفَتْه بالكَرَمِ والسُّؤدُدِ؛ فلا يَسكُنُ قَريبًا مِن النَّادي إلَّا مَن هذه صِفَتُه؛ لأنَّ الضِّيفانَ يَقصِدون النَّادِيَ، ولأنَّ أصحابَ النَّادي يأخُذون ما يحتاجون إليه في مجلِسِهم من بيتٍ قَريبٍ للنَّادي، واللِّئامُ يتباعدون مِنَ النادي.
وقالتِ المرأةُ العاشرةُ: «زَوْجي مالِكٌ، وما مالِكٌ؟! مالكٌ خيرٌ مِن ذلك»، وهذا تَعظيمٌ لِزوجِها، وكان اسمُه مالكًا، وأنَّه خيْرٌ مِمَّا ستَذكُرُه مِن وصْفِه، «له إبلٌ كَثيراتُ المَبارِك»، أي: يَملِكُ إبلًا كَثيرةَ المبارِكِ، وهو مَوضِعُ بُروكِها، «قَليلاتُ المسارِح»، أي: إنَّه لا يُوجِّه إلى المراعي منها كثيرًا؛ لاستعدادِه لِلضِّيفانِ حتَّى يَستطيعَ أنْ يَذبَحَ لهم إذا أتَوْه، وهذا يدُلُّ على كَرمِه، «وإذا سَمِعْنَ صَوتَ المِزْهَرِ أيْقَنَّ أنَّهنَّ هَوالِكُ»، أي: إذا سَمِعتِ الإبلُ صَوتَ المِزْهرِ لِفرحِه بِقُدومِ الضِّيفانِ، عَلِمتِ الإبلُ أنَّها ستَهلِكُ وستُذبَحُ لِإطعامِهم. والمِزْهَرُ: هو آلةٌ مِن آلاتِ العَزْفِ واللَّهوِ، أرادت أنَّ زَوْجَها عوَّد إبِلَه إذا نزل به الضِّيفانُ نَحَرَ لهم منها، وأتاهم بالمعازِفِ.
وقالتِ المرأةُ الحاديةَ عَشْرةَ -وهي أمُّ زَرعٍ عاتِكةُ بنتُ أكيمِلَ بنِ ساعِدةَ اليَمنيَّةُ-: «زَوْجي أبو زَرْعٍ»، أي: اسمُه أبو زرعٍ، «فما أبو زَرْع؟!» تقصِدُ بذلك التعظيمَ «أَناسَ مِن حُليٍّ أُذنَيَّ»، أي: قدْ مَلأَ أُذنِي مِنَ الحلِيِّ، «ومَلأَ مِن شَحْمٍ عَضُدَيَّ»، والعَضُدُ: هو ما بيْن المِرْفَقِ إلى الكَتِفِ، والمعنى: أسمَنَني ومَلأَ جسَدي شَحْمًا ولحْمًا مِنَ الأكلِ، ولم تُرِدِ اختِصاصَ العَضُدَينِ، لكِنْ إذا سَمِنَتا سَمِنَ غَيرُهما. «وَبَجَّحني فَبَجِحَتْ إلَيَّ نَفْسي»، أي: عظَّم إلَيَّ نَفسي فعَظُمَتْ عِندي، «وجَدَني في أهْلِ غُنَيمةٍ بِشِقٍّ»، أي: إنَّ أهْلَها كانوا ذَوي غَنَمٍ وليْسوا أصحابَ إبلٍ ولا خيْلٍ، فلمْ يَكونوا أغنياءَ؛ إذ العَرَبُ لا تعتَدُّ بأصحابِ الغَنَمِ وإنما يعتدُّون بأهلِ الخَيلِ والإبِلِ. وكانوا يُقيمونَ بمكانٍ اسمُه شِقٌّ، أو المرادُ: شِقُّ جَبَلٍ؛ لقِلَّتِهم وقِلَّةِ غَنَمِهم، وشِقُّ الجَبَلِ: ناحِيَتُه، وقيل: المراد: بشَظفٍ مِنَ العَيشِ وجَهدٍ ومَشَقَّةٍ. «فجعَلَني في أهْلِ صَهيلٍ وأَطيطٍ»، الصَّهيلُ: صَوتُ الخيلِ، والأطيطُ: صَوتُ الإبلِ، والمعنى: جعَلَها مِن أصحابِ الخيلِ والإبلِ. «ودائِسٍ ومُنَقٍّ»، أي: يَدوسُ الزَّرعَ لِيُخرِجَ الحَبَّ مِنَ السُّنبلِ ويُنقِّي الطَّعامَ، فيُزيلُ ما يَختلِطُ به مِن قِشرٍ ونحْوِه، والمعنى: أنَّه نقَلَها مِن شِدَّةِ العيْشِ وجَهدِه إلى الثَّروةِ الواسعةِ مِنَ الخيلِ والإبلِ والزَّرعِ، «فعندَه أقولُ فلا أُقبَّحُ»، أي: لا يُقبِّحُ قَولي ولا يَرُدُّه، «وأرقُدُ فأَتصبَّحُ»، أي: أنامُ حتَّى الصَّباحِ؛ لأنَّها كان تَملِكُ خَدَمًا يَقومونَ عنها بِأعمالِ المنزلِ، «وأشْرَبُ فَأتَقنَّحُ»، أي: أَشرَبُ حتَّى أدَعَ الشَّرابَ مِن شِدَّةِ الرِّيِّ، فلا يَقطَعُ شُربي شَيءٌ.
ثُمَّ أثْنَتِ المرأةُ على أُمِّ زَوجِها أبي زَرْعٍ، فقالت: «أمُّ أبي زَرْع، فما أمُّ أبي زَرْعٍ؟! عُكُومُها»، أي: الأوعيةُ الَّتي تَجمَعُ فيها الأمتعةَ «رداحٌ»، أي: كَبيرةٌ، «وبيتُها فساحٌ» أي: بيتُها واسعٌ كبيرٌ.
ثُمَّ أثْنتْ على ابنِ أبي زَرْعٍ، فقالت: «مَضجِعُه كمَسَلِّ شَطْبةٍ»، أي: مَكانُ نومِه يُشبِهُ الجريدَ المشطوبَ، تُريدُ أنَّ قَوامَه يُشبِهُ السَّيفَ في الرَّشاقةِ والخفَّةِ، «ويُشبِعُه ذِراعُ الجَفْرةِ»، وهي أُنثى المعزِ الَّتي بلَغَتْ أربعةَ أشهُرٍ، والمرادُ أنَّه قليلُ الأكلِ، والعَرَبُ تمدَحُ بذلك.
ثُمَّ أثْنتِ المرأةُ على بِنتِ أبي زَرْعٍ فقالت: «طَوعُ أبيها، وطَوعُ أمِّها»، أي: طائعةٌ لِأبيها وأمِّها، لا تعصي أمْرَهما، «ومِلْءُ كِسائِها»، أي: تَملَأُ ثَوبَها لِسِمْنتِها، «وغَيظُ جارتِها»، أي: تَغيظُ ضَرَّتَها؛ لجَمالِها وأدبِها وعِفَّتِها.
ثُمَّ أثْنَت على جاريةِ أبي زَرعٍ فقالت: «لا تَبُثُّ حَديثَها تَبثيثًا»، أي: لا تُذيعُ وتُفشي حَديثَهم وأسرارَهم، «ولا تَنَقِّثُّ مِيرتَنا تَنقيثًا»، أي: لا تُفسِدُ طعامَهم، ولا تُفَرِّقُه ولا تَذهَبُ به، والمرادُ وَصْفُها بالأمانةِ. «ولا تَملَأُ بيْتَنا تَعشيشًا» أي: لا تَترُكُ القُمامةَ مُفرَّقةً في البيتِ كَأعشاشِ الطُّيورِ، بل هي مُصلِحةٌ للبَيتِ مُعتَنِيةٌ بتنظيفِه.
ثمَّ ذَكَرت أمُّ زَرعٍ التغَيُّرَ الذي حدث في حياتِها مع أبي زَرعٍ عندما رأى امرأةً أخرى فتزَوَّجَها وطَلَّق أمَّ زَرعٍ. قالتْ: «خرجَ أبو زرعٍ والأوطابُ تُمْخَضُ»، الأوطابُ: هي أوعيةُ اللَّبنِ تُحرَّكُ لِاستخراجِ الزُّبدِ، أرادت أنَّ الوَقتَ الذي خرج فيه كان في زَمَنِ الخِصْبِ وطِيبِ الرَّبيعِ، ويحتَمِلُ أنَّها أرادت أنَّ خُروجَه كان غُدوةً، وعندهم الخيرُ الكثيرُ مِنَ اللَّبَنِ الغَزيرِ بحيث يشرَبُه صريحًا ومخيضًا، ويَفضُلُ عندهم حتى يمخُضوه ويستخرِجوا زُبْدَه، وقيل: كأنَّ سَبَبَ ذِكْرِ ذلك توطِئةٌ للباعِثِ على رُؤيةِ أبي زَرعٍ للمَرأةِ -التي ستذكُرُها الآن- على الحالةِ التي رآها عليها، أي أنَّها مِن مَخْضِ اللَّبَنِ تَعِبَت، فاستلقَتْ تستريحُ، فرآها أبو زَرعٍ على ذلك. قالت: «فَلقيَ امرأةً معها وَلدانِ لها كَالفَهِدينِ»، وسبَبُ وَصْفِها حُسْنَ ولَدَيها: التنبيهُ على سببِ تزويجِ أبي زرعٍ لها؛ لأنَّ العَرَبَ كانت ترغَبُ في كونِ الأولادِ مِن النِّساءِ النَّجيباتِ في الخَلْقِ والخُلُقِ. «يَلْعَبانِ مِن تحْتِ خَصْرِها بِرُمَّانتينِ»، أي: يَتحرَّكانِ تحْتَ وسَطِها ويَلْعَبانِ بِثَديَيِ المرأةِ الصَّغيرينِ اللَّذينِ هما كالرُّمَّانتينِ في حُسنِهما، فطلَّقَني ونَكَحَها.
وقيل: أرادت بقَولِها: «يَلْعَبانِ مِن تحتِ خَصْرِها بِرُمَّانتينِ» أنَّ هذه المرأةَ كانت ذاتَ مُؤَخِّرةٍ عَظيمةٍ، فإذا استلقَت على ظَهْرِها ارتفعت مؤخِّرَتُها بها من الأرضِ حتى تصيرَ تحْتَها فجوةٌ يجري فيها الرُّمَّانُ.
قالت: «فنَكَحْتُ بعْدَه رجُلًا سَرِيًّا»، أي: تزوَّجتُ بعد أبي زرعٍ رجلًا شريفًا، «ركِبَ شَرِيًّا»، أي: أنَّه يَمضي في سَيرِه بِجدٍّ بلا انقطاعٍ، «وأخَذَ خَطِّيًّا» الخطِّيُّ: الرُّمحُ، وهو مَنسوبٌ إلى مَوضعٍ بِاليمنِ تُجلَبُ منه الرِّماحُ، «وأراحَ علَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا»، أي: أتى لها بالكثيرِ مِنَ الإبلِ، فالثَّرِيُّ الكَثيرُ المالِ وغيرِه، ومنه الثروةُ في المالِ، وهي كثرتُه. «وأعْطاني مِن كلِّ رائحةٍ زوْجًا»، أي: كان يُعطيها مِن كلِّ شَيءٍ يروحُ مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ والعَبيدِ زَوجًا، أي: اثنين، ويحتَمِلُ أنها أرادت بـ«زوجًا»: صِنفًا، والزَّوجُ يَقَعُ على الصِّنفِ، ومنه قَولُه تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} [الواقعة: 7]. وقال: «كُلي أمَّ زرعٍ، ومِيري أهلَكِ»، أي: صِلي أهلَكِ وبَرِّيهم وأَوسِعي عليهم في الطَّعامِ.
قالت: لو جمَعْتُ كلَّ شَيءٍ أَعطانيه، ما بلَغَ أصغرَ آنيةِ أبي زرْعٍ، أي: كلُّ ما أكْرَمَني به لا يُساوي شيئًا مِن إكرامِ أبي زرعٍ. فقد وصَفَت هذا الثَّانيَ بالسُّؤدُدِ في ذاتِه والثَّروةِ والشَّجاعةِ والفَضْلِ والجُودِ؛ لكَونِه أباح لها أن تأكُلَ ما شاءت من مالِه، وتُهدِيَ ما شاءت لأهْلِها مبالغةً في إكرامِها، ومع ذلك لم يقَعْ عِندَها موقِعَ أبي زَرعٍ، وأنَّ كثيرَه دون قليلِ أبي زرعٍ، مع إساءةِ أبي زَرعٍ لها أخيرًا في تطليقِها، ولكِنَّ حُبَّها له بغَّض إليها الأزواجَ.
وبعْدَ أنْ قصَّتْ أمُّ المُؤمِنينَ عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذه القصَّةَ، قال لها: «كُنتُ لكِ كأبي زَرعٍ لأُمِّ زرعٍ»، أي: كانتْ سِيرتي معكِ في الإكرامِ والحُبِّ كما كانتْ سِيرةُ أبي زَرْعٍ لأمِّ زَرْعٍ، وهذا مِن تواضُعِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحُسْنِ أخلاقِه، وإلَّا فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يتشَبَّهُ بغيرِه، بل يُتشبَّه به وبصِفاتِه وأخلاقِه الحميدةِ.
وفي الحَديثِ: مشروعية ذكر محاسن النساء للرجال إذا كن مجهولات، بخلاف المعينات.
وفيه: مشروعية إعلام الرجل بمحبته لامرأته.
وفيه: مشروعية السجع في الكلام إذا خرج عفوا دون تكلف.
وفيه: جواز التأسي بأهل الفضل.