باب حسن معاشرة النساء 3
سنن ابن ماجه
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن بشر، عن زكريا، عن خالد بن سلمة، عن البهي، عن عروة بن الزبير، قال:
قالت عائشة: ما علمت حتى دخلت علي زينب بغير إذن، وهي غضبى، ثم قالت: يا رسول الله، أحسبك إذا قلبت لك بنية أبي بكر ذريعيها، ثم أقبلت علي فأعرضت عنها حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دونك فانتصري" فأقبلت عليها حتى رأيتها وقد يبس ريقها في فيها، ما ترد علي شيئا، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتهلل وجهه (1).
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم نِعمَ المربِّي والمعلِّم، وكانَ خيرَ الناسِ لأهلِه، وأحسنَهم عِشرةً لأزواجِه، وكان زَوجًا لعديدٍ مِن النِّساءِ، وكان يقَعُ بينَهنَّ ما يقَعُ بينَ الضَّرائرِ مِن الغَيرةِ وسُوءِ الفَهْمِ، فكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يَعدِلُ بينَهنَّ ولا يسمَحُ لواحدةٍ أن تتَعدَّى على صاحبتِها، كما تُخبِرُ عائشةُ رَضِي اللهُ عنها ببعضِ ذلك في هذا الحديثِ، فتَقولُ: "مَا عَلِمتُ حتَّى دخَلَت عليَّ زَينبُ بغيرِ إذنٍ وهي غَضْبَى"، أي: إنَّ زَينبَ زوجَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قد دخَلَتْ على عائشةَ غاضِبةً، بغيرِ استِئْذانٍ، وعِندَها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، ثمَّ قالتْ زينبُ لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم: "يا رسولَ اللهِ، أَحَسْبُكَ إذا قَلَبَتْ بُنيَّةُ أبي بكرٍ ذُرَيعتَيْها"، أَي: يَكْفِيكَ مِن عائشةَ أن تُحرِّكَ ذِراعَيها فلا تلْتَفِتَ إلى النِّسَاءِ الأُخرَياتِ مِن زَوجاتِك! وهذا كِنايةٌ عَن غَيرتِها مِن عائشةَ وما كان مِن حُبِّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لها، وقولُها: "بُنيَّةُ أبي بكرٍ"، تَصغيرٌ لبِنتٍ، و"ذُرَيعتَيْها" تَصغيرُ ذراعٍ، قالت عائشةُ رَضِي اللهُ عنها: "ثمَّ أقبَلَتْ إليَّ فأَعرَضْتُ عَنْها"، أي: لَمَّا تَوجَّهَتْ إليَّ زينبُ بالكلامِ حوَّلتُ وجْهي عنها ولم أُجِبْها بشيءٍ، "حتَّى قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم: دُونَكِ فانتَصِري"، والمعنى: خُذي حقَّك مِنها، ورُدِّي عن نَفسِك الإساءةَ مِن زينبَ الَّتي دخَلَت بغيرِ إذنِكِ وهي غَضْبى، وتكَلَّمَت بكلامٍ أوجَعَ عائشةَ، وهذا الإذنُ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لقَوْلِه تعالى: {لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]؛ فدلَّ على أنَّ مَن ظُلِمَ له الحقُّ في أن يَنتصِرَ لنَفسِه، قالت عائشةُ رَضِي اللهُ عنها: "فأَقبَلْتُ عَلَيها، حتَّى رَأيتُها قد يَبِس رِيقُها في فَمِها، ما تَرُدُّ علَيَّ شيئًا"، أي: جَفَّ فَمُها ولم تَستَطِعِ الكلامَ؛ لشدَّةِ الخَجَلِ؛ حيْثُ لم تَجِدْ إلى الجَوابِ سَبيلًا، وهذا كنايةٌ عن شدَّةِ ما أوجَعَتْها به عائشةُ رَضِي اللهُ عنهما، "فرَأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم يَتهَلَّلُ وَجهُه"، أي: تَنفرِجُ أساريرُه وتَنبسِطُ سُرورًا، أو رِضًا، وهُنا يُبيِّنُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أنَّه يُباحُ للإنسانِ أن ينتَصِرَ ممَّن ظلَمَه، كما فعَلَت أمُّ المؤمِنين عائشةُ رَضِي اللهُ عنها مع أمِّ المؤمنينَ زينبَ رَضِي اللهُ عنها حينَما نالَتْ منها، ولكنَّ العفوَ والصَّفحَ أفضلُ إذا لم يَكُنْ في الانتصارِ مَصلحةٌ أكبرُ، كما قال اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 39- 41]، والانتصارُ مشروطٌ بشرطَينِ؛ الأوَّلُ: القُدرةُ على ذلك، فإذا كان عاجزًا، أو كان الانتصارُ يُفْضي إلى عُدوانٍ زائدٍ أو مَفسَدةٍ أكبرَ تُرِك، وهو أصلُ النَّهيِ عن الفتنةِ، والثَّاني: ألَّا يَعتَدي، وفي صحيحِ مسلمٍ: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "المُسْتَبَّانِ ما قالَا فعَلى البادِئِ ما لَم يَعتَدِ المَظْلومُ"؛ فالمباحُ في الانتصارِ أن يَرُدَّ المجنيُّ عليه مِثلَ ما قال الجاني أو ما يُقارِبُه؛ لأنَّه قِصاصٌ، فلا يتَجاوَزُ المنتَصِرُ في السِّبابِ وغيرِه.
وفي الحديثِ: العَدلُ بينَ الزَّوجاتِ في المعامَلاتِ الظَّاهرةِ خِلافًا لِتَعلُّقِ القلبِ بإحداهُنَّ؛ فإنَّ ذلك بيَدِ اللهِ لا بيَدِ البشَرِ.
وفيه: مَشروعيَّةُ انتصارِ المظلومِ مِن ظالِمِه بقَدرِ مَظلَمتِه دونَ اعتداءٍ.