باب دعاء رسول الله ﷺ3
سنن ابن ماجه
حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، عن يزيد الرقاشي
عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: "اللهم ثبت قلبي على دينك" فقال رجل: يا رسول الله، تخاف علينا؟ وقد آمنا بك وصدقناك بما جئت به. فقال: "إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل يقلبها" (2)
اللهُ عزَّ وجلَّ مالِكُ كلِّ شيءٍ، وبيَدِه أُمورُ القُلوبِ؛ فيَنْبغي على المُسلِمِ أنْ يسأَلَ ربَّهُ الثَّباتَ على الحقِّ والهُدى.
وفي هذا الحديثِ يقولُ أنسُ بنُ مالكٍ رضِيَ اللهُ عنه: "كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُكْثِرُ أنْ يقولَ"، أي: يُكْثِرُ مِن هذا الدُّعاءِ: "اللَّهُمَّ ثبِّتْ قَلْبي على دِينِك"، أي: اجعَلْه ثابتًا على دِينِك، غيرَ مائلٍ عن الدِّينِ القويمِ، والصِّراطِ المُستقيمِ، والخُلقِ العظيمِ. وذكَرَ كلمةَ "ثبِّتْ"، وأضاف القلْبَ إلى نفْسِه تلْميحًا وتَعلِيمًا لِأصحابِه؛ لِيقتَدُوا به في الدُّعاءِ والخوفِ مِنَ اللهِ؛ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مأمونُ العاقبةِ، فلا يَخافُ على نفْسِه وعلى استقامتِها؛ لقولِه تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 3- 4]، ومِن ثَمَّ خَصَّ الدِّينَ بالذِّكرِ، والمُرادُ من ذلك تعليمُ الأُمَّةِ.
قال أنسٌ: "فقال رجُلٌ: يا رسولَ اللهِ، تخافُ علينا وقد آمنَّا بك وصدَّقْناكَ بما جئْتَ به؟" أي: لَمَّا سمِعَ دُعاءَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ انتقَلَ الرَّجُلُ إلى نفْسِه وإلى العِبادِ؛ فإنَّه إذا كان صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَخافُ تَقليبَ قلْبِه؛ فكيف بالعِبادِ؟! فكأنَّ الرَّجلَ عَلِمَ أنَّ قولَه ذلك ليسَ لخَوفِه على نفْسِه، وإنَّمَا هو تَشريعٌ للأُمَّةِ لِخَوفِه عليهم؛ فإذا كانَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَدْعُو بمِثْلِ هذا الدُّعاءِ فالأُمَّةُ أَوْلَى بذلك، ففَرَضَ السُّؤالَ في الأُمَّةِ تأدُّبًا.
فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إنَّ القُلوبَ بين إصبعَينِ مِن أصابعِ الرَّحمنِ عَزَّ وجَلَّ يُقلِّبُها"، والمُرادُ: أنَّ اللهَ هو المُتمكِّنُ من قُلوبِ العِبادِ، والمُتسلِّطُ عليها، والمُتصرِّفُ فيها كيف يشاءُ، وهذا بيانُ أنَّ العبدَ ليس إليه شَيءٌ مِن أمْرِ سَعادتِه أو شَقاوتِه، بل إنِ اهْتَدى فبِهدايةِ اللهِ إيَّاه، كما أنَّ ثُبوتَه على الإيمانِ فبتَثبيتِه عَزَّ وجَلَّ، وإنْ ضَلَّ فبصَرفِه عن الهُدى، كما قال اللهُ تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]، وجَعْلُ القُلوبِ بين أُصبعَينِ كِنايةٌ عن سُرعةِ تقلُّبِها.
وفي الحديثِ: بيانُ خوفِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من رَبِّه؛ حيث يَدْعو أنْ يُثَبِّتَ اللهُ قلْبَه على دِينِه.
وفيه: بيانُ شِدَّةِ حرْصِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على تَنبيهِ أُمَّتِه ألَّا يُصيبَها ذُهولٌ وغَفلةٌ عن مُراقبةِ الأعمالِ.
وفيه: إثباتُ صِفَةِ الأصابعِ للهِ سُبحانَه كما يَليقُ به، دونَ تَعطيلٍ، أو تَكيييفٍ، أو تَشبيهٍ.