باب ذكر أويس القرني من التابعين وفضله رضي الله عنه 2

بطاقات دعوية

باب ذكر أويس القرني من التابعين وفضله رضي الله عنه 2

 عن أسير بن جابر قال كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر حتى أتى على أويس فقال أنت أويس بن عامر قال نعم قال من مراد ثم من قرن قال نعم قال فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم قال نعم قال لك والدة قال نعم قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل فاستغفر لي فاستغفر له فقال له عمر أين تريد قال الكوفة قال ألا أكتب لك إلى عاملها قال أكون في غبراء الناس أحب إلي قال فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس قال تركته رث البيت قليل المتاع قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل فأتى (1) أويسا فقال استغفر لي قال أنت أحدث عهدا بسفر صالح (2) فاستغفر لي قال استغفر لي قال أنت أحدث عهدا بسفر صالح فاستغفر لي قال لقيت عمر قال نعم فاستغفر له ففطن له الناس فانطلق على وجهه قال أسير وكسوته بردة فكان كلما رآه إنسان قال من أين لأويس هذه البردة. (م 7/ 189 - 190)

فَضَّل اللهُ سُبحانه وتَعالَى بعْضَ عِبادِه، وأعْطاهم بحُسنِ تَعبُّدِهم الخيرَ كلَّه، وجَعَلَهم مُستَجابي الدَّعوةِ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي التَّابعيُّ أُسَيرُ بنُ جابرٍ أنَّ الخليفةَ عُمرَ بنَ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه كان إذا أَتى عليهِ «أمْدَادُ أهلِ اليمنِ» وهمُ الجماعاتُ الغُزاةُ الَّذينَ يَمدُّونَ جُيوشَ الإسلامِ في الغزْوِ؛ سألَهم: «أَفيكُم أُويْسُ بنُ عامرٍ؟» وظَلَّ رَضيَ اللهُ عنه يَسْألُهم عن أُوَيسٍ في كلِّ مرَّةٍ يَأتون إليه، فلا يَجِدُه في الأمدادِ، «حتَّى أتى على أُوَيْسٍ رَضيَ اللهُ عنه» أي: وَجَدَه في بعضِ أمدادِهم وصادَفَه وتَكلَّم معه، فقالَ له عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه: «أَنتَ أُوَيْسُ بنُ عامرٍ؟» فَأجابَه أويس: نَعمْ، قال: «مِن مُراد» وهي اسمُ قبيلةٍ، «ثُمَّ مِن قَرَنٍ» وهي بَطنٌ مِن بُطونِ قَبيلةِ مُرادٍ، كلُّ ذلك ليُميِّزَه عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه عن غيرِه حتَّى يَخلُصَ مِن التَّشابهِ مع غيرِه، فَأجابَه أُوَيسٌ: نَعمْ، فَسَألَه عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه: «أكانَ بكَ بَرَصٌ» وهو بَياضٌ يَظهَرُ على الجِلدِ بُقَعًا ثمَّ يَنتشِرُ في باقي الجِلدِ حتَّى يَعُمَّه، مع ما فيه مِن إضعافِ الجلدِ، واستِقْذارِ النَّاسِ له، «فَبرأْتَ منه» أي: شُفِيتَ منه «إلَّا مَوضعَ دِرهمٍ» أي: بَقِي في جِسمِكَ بُقعةٌ صَغيرةٌ في حَجمِ الدِّرهمِ، فَأجابَ أُوَيسٌ: نَعمْ، كان بي أوَّلًا برَصٌ فشُفِيتُ منه إلَّا قَدْرَ دِرهمٍ، فقال له عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه: لكَ وَالدةٌ؟ قال أُوَيسٌ: نَعمْ، وظَاهِرُه أنَّها كانتْ مَوجودةً ذلك الحينِ، فأخبَرَه عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه سَمِع رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «يأْتِي عليكم» أي: في زَمنٍ مِن أزمانِكُم «أُوَيْسُ بنُ عامرٍ، مع أمدادِ أهلِ اليمنِ مِن مُراد ثُمَّ مِن قَرَنٍ، وكان به بَرَصٌ فَبرأَ منه إلَّا مَوضِعَ دِرهَمٍ»، وفي روايةٍ أُخرى عندَ مُسلمٍ: «قدْ كان به بَياضٌ، فدَعا اللهَ فأذْهَبَه عنه» والبياضُ هو البَرَصُ، «له والدةٌ هو بها بَرٌّ»، أي: بالِغٌ في البِرِّ والإحسانِ إليها، «لو أقسمَ على اللهِ»، أي: دَعا اللهَ على أمرٍ يُرِيدُه لَأبرَّه اللهُ واستجابَ له دَعْوتَه.
ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِعُمرَ رَضيَ اللهُ عنه: «فإنِ استطعْتَ أنْ يستغفِرَ لك فافعَلْ» أي: اطلُبْ منه الدُّعاءَ بأنْ يَغفِرَ اللهُ لكَ، ولا يُفهمُ مِن هذا أفضليَّتُه على عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، ولا أنَّ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه غيرُ مَغفورٍ له؛ لِلإجماعِ على أنَّ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه أفضلُ منه؛ لأنَّ أُويسًا تَابعيٌّ، والصَّحابيُّ أفضلُ منه، إنَّما مَضمونُ ذلك الإخبارُ بأنَّ أُوَيْسًا مِمَّنْ يُستجابُ له الدُّعاءُ، وإرشادُ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه إلى الازديادِ مِنَ الخيرِ واغتنامِ دُعاءِ مَن تُرجَى إجابتُه، وهذا نحوٌ مِمَّا أمَرَنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ به مِنَ الدُّعاءِ له، والصَّلاةِ عليه وسُؤالِ الوَسيلَةِ له وإنْ كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أفضلَ ولَدِ آدمَ.
ثمَّ قال عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه لأُوَيسٍ: «استغْفِرْ لي» عمَلًا بوَصيَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فاستَغفَرَ له أُوَيسٌ، ثمَّ قال له عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه: «أَينَ تُريدُ» أنْ تَنزِلَ وأيْن تَتوجَّهُ في سَفرِكَ؟ فذَكَر له أُوَيسٌ بَلدةَ «الكوفةِ»، وهي البلدةُ المعروفةُ بِالعراقِ، وسُمِّيتْ بذلك لِاستدارةِ بِنائِها، فقال له عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه: «أَلا أَكتبُ لك إلى عامِلِها؟» يُريدُ أنْ يُوصِيَ به عندَ أميرِ الكوفةِ، فيكونَ في حاجتِه، فقال أُوَيسٌ: «أَكُونُ في غَبْرَاءِ النَّاسِ»، وهُم عامَّتُهم وفُقراؤهمُ الَّذين لا يُؤبَه إليهم، أحبُّ إليَّ، وهذا كِنايةٌ عن كَونِه لا يُحِبُّ أنْ يُعرِّفَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه أميرَ الكوفةِ بأمْرِه، وذَهَب أُوَيسٌ إلى الكوفةِ.
وأخبَرَ أُسيرُ بنُ جابرٍ أنَّه لَمَّا كان العامُ المُقبِلُ مِن مُلاقاةِ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه له، حجَّ رجلٌ مِن أشرافِ أهلِ الكوفةِ، وفي رِوايةٍ أُخرى عندَ مُسلمٍ: «أنَّ أهلَ الكوفةِ وَفَدوا إلى عُمرَ، وفيهم رجُلٌ ممَّن كان يَسخَرُ بأُوَيسٍ» أي: يَحتقِرُه ويَستهزِئُ به، وهذا دَليلٌ على أنَّه كان يُخْفي حالَه ويَكتُمُ السِّرَّ الَّذي بيْنه وبيْنَ اللهِ عزَّ وجلَّ، ولا يُظهِرُ منه شيئًا يدُلُّ عليه، فَوافقَ وصادَفَ هذا الرَّجلُ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه، فَسألَه عُمرُ عَن أحوالِ أُوَيْسٍ، فقال الرَّجلُ: «تَركتُه رثَّ البيتِ»، أي: إنَّ بَيْتَه قَديمٌ بالٍ، «قليلَ المتاعِ»، وهو كلُّ ما يُنتفعُ به كَالطَّعامِ والثِّيابِ ونحوِها، فذَكَرَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه لهذا الرَّجلِ حَديثَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن فَضلٍ أُوَيسٍ القَرَنيِّ، وكأنَّ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه كان قدْ عَلِم أنَّه يَسخَرُ منه، فقال ذلك لِيَرجِعَ الرَّجلُ عن الاستهزاءِ به، فلمَّا رجَعَ ذلك الرَّجلُ بعْدَ الحجِّ إلى الكوفةِ، ذَهَب إلى أُوَيْس، وقال له: «اسَتَغْفِرْ لي» عمَلًا بحَديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ له أُوَيْسٌ: «أَنتَ أحدَثُ عَهدًا بِسَفَرٍ صالحٍ»، أي: إنَّ رُجوعَك مِن الحجِّ أقْربُ وأَرْجَى لِإجابةِ الدُّعاءِ؛ فَلذَا سَألَه أُويْسٌ أنْ يَدعُوَ له، وقال له: «فَاستغفِرْ لي»، فَكرَّرَ الرَّجلُ مرَّةً ثانيةً ما قالَهُ وطلَبَ مِن أُوَيسٍ أنْ يسَتغفِرَ له، فرَدَّ عليه أُويسٌ بمِثلِ قولِه، وفطِنَ أُويسٌ أنَّه عَرَفَ بِمقامِه، فسَألَ الرَّجلَ عن لُقْياهَ عُمرَ في الحجِّ، وإنَّما سَأله عن ذلك لَمَّا رآهُ يُلِحُّ عليه في طَلبِ الدُّعاءِ، ففَطِنَ أنَّ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه حَدَّثه بالحديثِ، فأخبَرَه الرَّجلُ أنَّه لَقِيَ عُمرَ بنَ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، يُشيرُ إلى أنَّه يَعلَمُ بمَنزلتِه وفَضلِه بعْدَ ما حَدَّثه عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه، فَاستغْفَرَ له أُوَيسٌ؛ لأنَّه علِمَ أنَّه أَعْلمَه بِعلُوِّ مَقامِه، وأنَّه لَمَّا علمَ ذلك لا يَتركُه حتَّى يَدعُوَ له. ثمَّ بعْدَ ذلك فطِنَ له النَّاسُ وعَرَفوا مَكانتَه وأَقبَلُوا عليه، فَانطلَقَ أُوَيسٌ «على وَجهِه» وهو كِنايةٌ عن سُرعتِه في الخروجِ مِن الكوفةِ؛ خَوفًا مِن الشُّهرةِ بيْنهم.
قال أُسيرُ بنُ جابرٍ: «وكَسوتُه بُردةً» وهي كِساءٌ مُخَطَّطٌ يُلتحَفُ به، فكان كلَّما رآهُ إنسانٌ وعليه تلك البُردةُ، قال: «مِن أينَ لِأُويسٍ هذه البُردةُ؟» تَعجُّبًا مِن حُسنِها بالنِّسبةِ إلى لِباسِه الأوَّلِ.
وكان أُوَيسٌ مِن أولياءِ اللهِ المخْلصينَ المَخفيِّين الَّذين لا يُؤبَهُ بهم، ولوْلا أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخبَرَ عنه ووَصَفَه بوَصفِه، ونَعَتَه بنَعتِه وعلامتِه؛ لَما عَرَفَه أحدٌ، وكان مَوجودًا في حَياةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وآمَنَ به وصَدَّقَه ولم يَرَه، فكان مِن التَّابعينِ ولم يكُنْ مِن الصَّحابةِ.
وفي الحديثِ: دَليلٌ مِن دَلائلِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: تَبليغُ الشَّريعةِ ونشْرُ السُّنَّةِ والإقرارُ بِالفضْلِ لِأهلِه.
وفيه: الثَّناءُ على مَن لا يُخشى عليه عُجْبٌ بِذلك لِيقينِه وكمالِ إيمانِه.
وفيه: فضْلُ السَّفرِ الصَّالحِ، وأنَّ القادِمَ منه أرجى لِإجابةِ دعائِه.
وفيه: طَلبُ الدُّعاءِ مِن الصَّالحينَ وإنْ كان الطَّالبُ أفضَلَ.
وفيه: أنَّ الدُّنيا ليْست مِيزانًا للحُكمِ على النَّاسِ؛ فكمْ مِن مَغمورٍ في الأرضِ مَشهورٍ في السَّماءَ!
وفيه: فَضلُ البِرِّ بالأُمِّ.