باب رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - مسيلمة الكذاب والعنسي الكذاب

بطاقات دعوية

باب رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - مسيلمة الكذاب والعنسي الكذاب

عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال قدم مسيلمة الكذاب على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فجعل يقول إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته فقدمها في بشر كثير من قومه فأقبل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد النبي قطعة جريدة حتى وقف على مسيلمة في أصحابه قال لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن أتعدى أمر الله فيك ولئن أدبرت ليعقرنك الله وإني لأراك الذي أريت فيك ما أريت وهذا ثابت يجيبك عني (3) ثم انصرف عنه فقال ابن عباس فسألت عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنك أرى الذي أريت فيك ما أريت فأخبرني أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما فأوحي إلي في المنام أن انفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي فكان أحدهما العنسي صاحب صنعاء والآخر مسيلمة صاحب اليمامة. (م 7/ 57 - 58

كان مُسَيْلِمةُ الكذَّابُ -لعَنَه اللهُ- قدِ ادَّعى النُّبوَّةَ، وأنَّه يُوحَى إليه، واتَّبَعه قَومُه مِن بَني حَنيفةَ حَميَّةً وتَعصُّبًا، وقتَلَه اللهُ عزَّ وجلَّ في خِلافةِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضيَ اللهُ عنه في مَوقِعةِ اليَمامةِ الشَّهيرةِ.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي التَّابِعيُّ عُبَيدُ اللهِ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عُتْبةَ بنِ مَسعودٍ، أنَّه بلَغَهم أنَّ مُسَيْلِمةَ الكَذَّابَ أتى المَدينةَ مرَّةً، وكان ذلك على عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ونزَلَ في دارِ بِنتِ الحارِثِ، وكان مُتزوِّجًا مِن بِنتِ الحارِثِ بنِ كُرَيْزٍ، وهي كَيِّسةُ بِنتُ الحارِثِ، وقولُه: «وهي أُمُّ عَبدِ اللهِ بنِ عامِرٍ» صَوابُهُ: أُمُّ أولاد عبدِ اللهِ بنِ عامِرٍ؛ فهي زَوجةُ عبْدِ اللهِ بنِ عامرٍ وابنةُ عمِّه، لا أُمُّه.
فَجاءهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليَدْعوَه إلى الإسْلامِ؛ لعَلَّه يَترُكُ كُفرَه ودَعْوتَه، واصطَحَبَ معَه الصَّحابيَّ ثابِتَ بنَ قَيسِ بنِ شَمَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنه الَّذي كان يُلقَّبُ بخَطيبِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان في يَدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَضيبٌ -أي: عُودٌ مِن خشَبٍ ونحْوِه- فكَلَّمَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال مُسَيْلِمةُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنْ شِئْتَ خَلَّيْنا بيْنَكَ وبيْن الأمرِ -أي: أمْرِ النُّبوَّةِ-، ثمَّ جعَلْتَه لنا بعْدَكَ، يَعني: لو أرَدْتَ ترَكْتُ دَعْوَتي بشَرطِ أنْ تَجعَلَ النُّبوَّةَ لي مِن بَعدِكَ، كأنَّها مُلْكٌ، أو مِن أمرِ البشَرِ يُوَزِّعونَها كيف شاؤوا! فرَدَّ عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّه لنْ يَنالَ منْه شيئًا، وأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعلَمُ أنَّ مُسَيلِمةَ هو تَحْقيقٌ للرُّؤْيا الَّتي رَآها قبلَ ذلك، وانصرَفَ عنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وترَكَه، وأخْبَرَه أنَّ ثابِتَ بنَ قَيْسٍ رَضيَ اللهُ عنه سيُجِيبُ بدَلًا مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عليه؛ تَحقيرًا لشَأنِه وتَصغيرًا له، وأحالَ على ثابتٍ؛ لعِلمِه بأنَّه يقومُ عنه بجَوابِ كلِّ ما يَسأَلونه عنه؛ إذ كان مِن أفضَلِ النَّاسِ، وأكمَلِهم عقْلًا، وأفصَحِهم لِسانًا.
ويَحْكي عُبَيدُ اللهِ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عُتْبةَ أنَّه سَألَ عبدَ اللهِ بنَ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما عنِ الرُّؤْيا الَّتي قصَدَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حَديثِه معَ مُسَيْلِمةَ الكذَّابِ، فأخْبَرَهُ ابنُ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه قدْ ذُكِرَ له أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «بيْنَا أنا نائمٌ، أُرِيتُ أنَّه وُضِعَ في يَدَيَّ سِوارانِ» والسِّوَارُ: ما يُوضَعُ في مِعصَمِ اليَدِ مِن الحُليِّ، وكانا مِن ذهَبٍ، فخافَهُما رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وكَرِهَهُما، فنَفَخَ فيهما، فطَارَا، ففسَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذه الرُّؤْيا بأنَّ هَذَين السِّوارَيْنِ يَكونانِ كَذَّابَيْنِ يَخرُجانِ مِن بَعْدِه، وقيلَ في سَببِ تَأْويلِ السِّوارَيْنِ بالكَذَّابَينِ: لأنَّ السِّوارَيْنِ وُضِعا في غيرِ مَوْضِعِهما؛ لأنَّه ليس مِن حِلْيةِ الرِّجالِ، وكذلك الكَذَّابُ يضَعُ الخبَرَ في غيرِ مَوضِعِه.
وقيلَ: مُناسَبةُ هذا التَّأْويلِ لهذه الرُّؤْيا: أنَّ أهلَ صَنْعاءَ وأهلَ اليَمامةِ كانوا أسْلَموا، فكانوا كالسَّاعِدَينِ للإسْلامِ، فلمَّا ظهَرَ فيهما الكَذَّابانِ، ودَعْواهما الباطِلةُ انخدَعَ أكثَرُهم بذلك، فكان اليَدانِ بمَنزِلةِ البَلدَيْنِ، والسِّوارانِ بمَنزِلةِ الكَذَّابَينِ، ونَفْخُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إيَّاهما فَطارا، دَليلًا لانْمِحاقِهما، واضْمِحْلالِ أمْرِهما.
فقال عُبَيدُ اللهِ بنُ عُتْبةَ: إنَّ أحَدَ هذَين الكذَّابَيْنِ هو الأسْوَدُ العَنْسيُّ الَّذي خرَجَ باليَمَنِ، وقتَلَه فَيْروزُ الدَّيْلَميُّ رَضيَ اللهُ عنه، قُبَيلَ وَفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. والآخَرَ هو مُسَيْلِمةُ الكذَّابُ، وقد  بعَثَ أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ خالِدَ بنَ الوَليدِ رَضيَ اللهُ عنهما سَنةَ 11 هِجْريَّةً، إلى مُسَيْلِمةَ الكذَّابِ في جَيشٍ كَبيرٍ، حتَّى أهلَكَه اللهُ على يَدِ وَحْشيِّ بنِ حَربٍ رَضيَ اللهُ عنه بعْدَ حَربٍ شَديدةٍ.
وفي الحَديثِ: أنَّ رُؤْيا الأنْبياءِ حقٌّ.
وفيه: استِخْدامُ العِبارةِ القَويَّةِ والتَّهديدِ معَ مَن يُخْشى ضَرَرُه.
وفيه: حِرصُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على تَبْليغِ الحقِّ، وتَركِ الخَوضِ في جِدالٍ عَقيمٍ لا طائلَ مِن وَرائِه.
وفيه: دَليلٌ مِن دَلائلِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: فَضيلةُ الصَّحابيِّ ثابتِ بنِ قَيسِ بنِ شَمَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنه.