باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين 8
بطاقات دعوية
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلا عابدا، فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت. فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات. فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه، فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها فوقع عليها، فحملت، فلما ولدت، قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك. قال: أين الصبي؟ فجاؤوا به فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه، وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي، فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب. قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا. وبينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة، فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل إليه فنظر إليه، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع»، فكأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فيه، فجعل يمصها، قال: «ومروا بجارية وهم يضربونها، ويقولون: زنيت سرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل. فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها، فقال: اللهم اجعلني مثلها، فهنالك تراجعا الحديث، فقالت: مر رجل حسن الهيئة، فقلت: اللهم اجعل ابني مثله، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون: زنيت سرقت، فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهم اجعلني مثلها؟! قال: إن ذلك الرجل كان جبارا، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون: زنيت، ولم تزن وسرقت، ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها» (1) متفق عليه. (2)
«المومسات» بضم الميم الأولى، وإسكان الواو وكسر الميم الثانية وبالسين المهملة؛ وهن الزواني. والمومسة: الزانية. وقوله: «دابة فارهة» بالفاء: أي حاذقة نفيسة. «والشارة» بالشين المعجمة وتخفيف الراء: وهي الجمال الظاهر في الهيئة والملبس. ومعنى «تراجعا الحديث» أي: حدثت الصبي وحدثها، والله أعلم
أقام الله سبحانه الحياة على جملة من القوانين الثابتة التي لا تتغير، وأحيانا يخرق الله عز وجل هذه القوانين؛ ليعلم الإنسان أن من وراء هذا الثبات ربا قادرا يقول للشيء: كن، فيكون، ومن ذلك نطق بعض الأطفال الرضع على غير ما جرت به العادة
وفي هذا الحديث يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، أي: لم يتكلم في حال الصغر التي لا يتكلم فيها الأطفال إلا ثلاثة، والمهد: الفراش الذي يهيأ للرضيع أن يربى فيه. وقد ورد في روايات أخرى كلام غير هؤلاء الثلاثة، وأجيب عن الحصر في هذا الحديث باحتمال أن يكون المعنى: لم يتكلم في بني إسرائيل، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله قبل أن يعلم الزيادة
أول هؤلاء الثلاثة: نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام، حيث أنطقه الله عز وجل عندما اتهم القوم أمه مريم في حملها به، فنفى التهمة عنها، كما في قوله تعالى: {فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} [مريم: 29- 33]
والثاني: الغلام الذي اتهم به جريج راهب بني إسرائيل، وكان بعد نبي الله عيسى عليه السلام، وكان جريج عابدا يصلي معتزلا الناس، فجاءته أمه في يوم ونادته وهو يصلي، فاحتار في نفسه وتردد: هل يقطع صلاته ويجيب نداء أمه، أم يكمل الصلاة تاركا نداء أمه؟ ففضل أن يكمل الصلاة، وفي رواية أخرى في الصحيحين: أن أمه كررت نداءها عليه ثلاث مرات، وفي كل مرة يتردد قائلا: رب أمي وصلاتي؟ ويمضي في صلاته، وعدم إجابته لها مع ترديد ندائها له يفهم ظاهره أن الكلام عنده يقطع الصلاة، وإنما سأل أن يلقي الله في قلبه الأفضل، ويحمله على أولى الأمرين به، فحمله على التزام مراعاة حق الله تعالى على حق أمه، ولما لم يجبها في الثالثة، وآثر استمراره في صلاته ومناجاته على إجابتها، واختار التزام مراعاة حق الله على حقها؛ غضبت أمه ودعت عليه أن يرى قبل موته المومسات، وهن النساء البغايا اللاتي يمارسن الرذيلة والزنا ويعرفن بذلك. وقد كان من كرامة الله تعالى لجريج أن ألهم الله أمه الاقتصاد في الدعوة، فلم تدع عليه بالفتنة بهن، بل دعت فقط بمجرد النظر في وجوههن، فلم تقتض الدعوة إلا كدرا يسيرا، بل أعقبت سرورا كثيرا، وفي رواية مسلم: «ولو دعت عليه أن يفتن لفتن»
وكان جريج في صومعته لا يخرج منها إلا لحاجة، والصومعة: بيت مثل الدير والكنيسة ينقطع فيها رهبان النصارى للعبادة، فأتته امرأة وأرادت أن تمكنه من نفسها بالزنا، فامتنع جريج، «فأتت راعيا فأمكنته من نفسها»، أي: فزنى بها راع يرعى الماشية، وقدر الله عز وجل الأسباب التي ستحقق في جريج دعوة أمه عليه، فحملت تلك المرأة الزانية من هذا الراعي، حتى انقضت أيامها، فولدت غلاما، ولما سئلت عن والد الغلام، قالت: إنه ابن جريج صاحب الصومعة؛ إشارة إلى اتهامه بالزنا معها، فذهب إليه الناس فهدموا الصومعة وأخرجوه منها، وجعلوا يؤذونه بالسب والشتم، فتوضأ جريج وصلى، ودعا الله في صلاته، ثم أقبل على الولد الذي اتهم فيه، وسأله: من أبوك يا غلام؟ فقال: أبي الراعي، فأنطق الله عز وجل الطفل بأن الراعي هو أبوه، فظهر للناس كرامة جريح وبراءته، فلما علموا براءته أرادوا أن يعيدوا بناء صومعته من ذهب، فرفض جريج ذلك، وأمرهم أن يعيدوا بناءها من الطين، وهذا من تواضعه رحمه الله
وأما الغلام الثالث: فهو رضيع امرأة من بني إسرائيل، قد مر بها رجل راكب له هيبة وهيئة حسنة يشار إليه بها، فقالت الأم -لما ظهر لها من عظيم شأن هذا الرجل-: «اللهم اجعل ابني مثله»، فدعت الله عز وجل أن يجعل ولدها مثل هذا الرجل في علو الشأن والمكانة، فترك الطفل الرضاعة من ثدي أمه وتوجه بنظره إلى الراكب، فقال: «اللهم لا تجعلني مثله»، أي: فيما يبطن من التجبر والتكبر، وهذه كرامة للغلام؛ حيث نطق في المهد، ثم عاد الطفل مرة أخرى للرضاعة. فأخبر أبو هريرة رضي الله عنه كأنه ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يصف حالة رضاع الطفل، فمص صلى الله عليه وسلم إصبعه توضيحا وتصويرا، ثم أكمل النبي صلى الله عليه وسلم حكاية الطفل مع أمه وهو يرضع، فأخبر أنه مر قوم بأمة -أي: بامرأة مملوكة- يظهر عليها أثر الإذلال، فقالت الأم: «اللهم لا تجعل ابني مثل هذه»، لما ظهر لها من إذلال المملوكة وإهانتها، دعت الله ألا يجعل ابنها مثل تلك المرأة، فترك الطفل ثدي أمه مرة ثانية ودعا: اللهم اجعلني مثل هذه الجارية المملوكة. فسألت المرأة ابنها لما ظهر لها أن كلامه في مهده لم يكن عبثا: لم دعوت الله بعكس ما ظهر لي وبعكس ما دعوت لك؟ فأجاب الغلام مخاطبا أمه وموضحا لها أن الراكب إنما هو جبار ظالم متكبر، فلا أحب أن أكون مثله، وأما الأمة التي تظهر بمظهر الذل والهوان، حيث يتهمونها بالسرقة والزنا، لكنها في حقيقة أمرها مظلومة؛ لم تسرق ولم تزن، والله مع المظلوم وناصره، وهي تلتجئ إلى الله تعالى أن يجيرها وأن يثيبها، فأحببت أن أكون مثلها
وفي الحديث: فضل طاعة الأم والحذر من إغضابها
وفيه: أن يحسن العبد ظنه بربه في شدائده
وفيه: أن من أهمه أمر فليفزع إلى الله تعالى، وليقبل عليه بالصلاة والدعاء
وفيه: إثبات كرامات الأولياء
وفيه: أن صاحب الصدق مع الله لا تضره الفتن
وفيه: أن الله عز وجل يجعل لأوليائه مخارج عند ابتلائهم، وإنما يتأخر ذلك عن بعضهم في بعض الأوقات تهذيبا وزيادة في الثواب