باب فى خبر الجساسة

باب فى خبر الجساسة

حدثنا حجاج بن أبى يعقوب حدثنا عبد الصمد حدثنا أبى قال سمعت حسينا المعلم حدثنا عبد الله بن بريدة حدثنا عامر بن شراحيل الشعبى عن فاطمة بنت قيس قالت سمعت منادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينادى أن الصلاة جامعة. فخرجت فصليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلاة جلس على المنبر وهو يضحك قال « ليلزم كل إنسان مصلاه ». ثم قال « هل تدرون لم جمعتكم ». قالوا الله ورسوله أعلم. قال « إنى ما جمعتكم لرهبة ولا رغبة ولكن جمعتكم أن تميما الدارى كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم وحدثنى حديثا وافق الذى حدثتكم عن الدجال حدثنى أنه ركب فى سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام فلعب بهم الموج شهرا فى البحر وأرفئوا إلى جزيرة حين مغرب الشمس فجلسوا فى أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثيرة الشعر قالوا ويلك ما أنت قالت أنا الجساسة انطلقوا إلى هذا الرجل فى هذا الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق. قال لما سمت لنا رجلا فرقنا منها أن تكون شيطانة فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا وأشده وثاقا مجموعة يداه إلى عنقه ». فذكر الحديث وسألهم عن نخل بيسان وعن عين زغر وعن النبى الأمى قال إنى أنا المسيح وإنه يوشك أن يؤذن لى فى الخروج قال النبى -صلى الله عليه وسلم- « وإنه فى بحر الشام أو بحر اليمن لا بل من قبل المشرق ما هو ». مرتين وأومأ بيده قبل المشرق قالت حفظت هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وساق الحديث.

بين النبي صلى الله عليه وسلم علامات الساعة وما يحدث من شدائد قبلها، وفصلها وبين أحوالها، وكيف ينجو الناس من الفتن التي تسبق القيامة، ووجه المسلمين إلى عمل الطاعات استعدادا للساعة، ومن هذه العلامات ظهور الدجال الكذاب مدعي الألوهية الذي يتسبب في فتنة عظيمة تذهل الناس عن إيمانهم
وفي هذا الحديث يخبر التابعي عامر بن شراحيل الشعبي أنه سأل الصحابية فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس رضي الله عنهما، وكانت من النساء اللاتي هاجرن في أوائل الهجرة إلى المدينة، فطلب منها أن تحدثه حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، «ولا تسنده إلى أحد غيره»، أي: لا يكون بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم راو آخر في حديثها هذا، فقالت: «لئن شئت لأفعلن» أي: أحدثك بالحديث قد سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم دون واسطة، فقال لها: أجل حدثيني، فذكرت أنها تزوجت ابن المغيرة، وهو أبو عمرو بن حفص بن المغيرة رضي الله عنه، وكان من خيار شباب قريش يومئذ؛ فأصيب في أول الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم بجراحات، ولكنه لم يمت في الجهاد، وإنما ذكرت فاطمة إصابته في الجهاد لبيان فضائله، ثم ذكرت أنها لما تأيمت، أي: أصبحت لا زوج لها؛ لأن زوجها طلقها طلاقا بائنا، طلبها للزواج بعد انقضاء عدتها عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: عبد الرحمن بن عوف، وأسامة بن زيد، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم، كما في رواية أخرى لمسلم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم اختار لها مولاه أسامة بن زيد، فخطبها إليه، وكانت فاطمة رضي الله عنها تعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحبني فليحب أسامة» أي: إن مما يلزم حب النبي صلى الله عليه وسلم أن يحب أسامة بن زيد رضي الله عنه، فلما كلمها صلى الله عليه وسلم أخبرته أن أمرها بيده، وله أن يزوجها من شاء
وكانت حين طلقت من زوجها ثلاث طلقات أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنتقل إلى بيت أم شريك لتقضي فيه عدتها، وكانت أم شريك امرأة غنية من الأنصار -وهم أهل المدينة- عظيمة النفقة في سبيل الله، يأتيها الضيوف من كل مكان، فقالت فاطمة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: سأفعل، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم خشي على فاطمة من كثرة ضيوف أم شريك رضي الله عنها، فقال لها: لا تفعلي؛ لأن أم شريك امرأة كثيرة الضيوف، «فإني أكره أن يسقط عنك خمارك» أي: حجابك، أو ينكشف الثوب عن ساقيك، فيرى القوم الداخلون عليها منك بعض ما تكرهين مما قد يطلع الناس عليه، ثم أمرها صلى الله عليه وسلم أن تنتقل وتعتد في بيت ابن عمها عبد الله بن عمرو ابن أم مكتوم، وهو رجل من بني فهر، فهر قريش، وهو ابن عمها مجازا؛ لكونه من قبيلتها، وعلل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم -كما في رواية أخرى عند مسلم- أنه رجل أعمى وتستطيع أن تنزع عنها ثيابها دون أن يراها، فانتقلت فاطمة رضي الله عنها إلى داره، فلما انقضت عدتها وحلت للأزواج، زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد رضي الله عنهما، كما ثبت في الروايات.
وأخبرت فاطمة رضي الله عنها أنها سمعت يوما مناديا ينادي في الناس: «الصلاة جامعة» فاجتمع الناس في المسجد النبوي، وخرجت فاطمة رضي الله عنها إلى المسجد، فصلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت فاطمة تصلي في أول صفوف النساء خلف الرجال، فلما أدى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته وفرغ منها، جلس على المنبر وهو يضحك تبسما، فقال: «ليلزم كل إنسان مصلاه»، أي: يبقى في مجلسه الذي صلى فيه، ثم سألهم: هل يعرفون السبب الذي جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم من أجله؟ فأجاب الصحابة رضي الله عنهم: الله ورسوله أعلم؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «إني والله ما جمعتكم لرغبة» من عطاء أو غنيمة، «ولا رهبة» خوف من عدو، ولكن جمعتكم لأن تميما الداري وكان رجلا نصرانيا، جاء وأسلم وحدثني حديثا وافق وطابق الذي كنت أحدثكم به عن المسيح الدجال، أي: عن أوصافه ووقت خروجه
فذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن تميم الداري رضي الله عنه أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من قبيلة لخم وقبيلة جذام، وهما قبيلتان من قبائل العرب، فهاج الموج ودار بهم مقدار شهر في البحر، وذهب بهم في غير طريقهم الذي يبحرون فيه، فقربوا السفينة إلى جزيرة وقت غروب الشمس، وتحولوا من المركب الكبير وجلسوا في أقرب السفينة، جمع قارب، والمراد به: المركب الصغير الذي يمكن راكبه من قرب الشاطئ، بخلاف السفن الكبيرة التي لا يمكنها الرسو والنزول بقرب الشاطئ حتى لا تتأذى بالصخور، فدخلوا في الجزيرة، فقابلتهم ورأتهم دابة «أهلب» أي: كثيرة الشعر، كما جاء مفسرا في الحديث، لا يعرف القوم وجهه من ظهره؛ وذلك بسبب كثرة الشعر، فقالوا: «ويلك! ما أنت؟» أي جنس أنت من الحيوان؟ ولعل سؤالهم كان استفهاما فيما بينهم، ثم إنها بعد ذلك كلمتهم وأجابتهم: «أنا الجساسة» قيل: سميت بذلك لتجسسها الأخبار للدجال، من التجسس، وهو الفحص عن أخبار الشيء والبحث عنها، فقال القوم: وما الجساسة؟ فقالت لهم: أيها القوم، اذهبوا إلى هذا الرجل في الدير -وهو مكان عبادة النصارى- قيل المراد به هنا: قصره الذي هو فيه، فإنه إلى خبركم بالأشواق، أي: كثير الشوق إلى ما عندكم من الخبر عن أهل الأرض
وهنا أخبر تميم أنه لما ذكرت لهم كلمة رجل خافوا منها أن تكون شيطانة، ثم ذهبوا مسرعين حتى دخلوا الدير، فرأوا فيه أعظم وأكبر إنسان رأوه في حياتهم؛ في الجسم والحجم والهيئة، وكان مقيدا في السلاسل والأغلال بأشد الأغلال، وكانت يداه مضمومة ومقيدة إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، فقالوا له: ويلك! ما أنت؟ وكأنهم سألوه عن جنسه، أو عن سبب حاله الذي هو فيه، فقال ذلك الرجل المقيد: قد قدرتم على خبري، أي: تمكنتم من الاطلاع على خبري، فإني لا أخفيه عنكم وسأحدثكم عن حالي، وسألهم عن حالهم وسبب وجودهم بتلك الجزيرة، فأخبروه أنهم من العرب، وحكوا له ما حدث معهم في البحر وما كان من أمر الدابة -الجساسة- ثم قال لهم: أخبروني عن نخل بيسان- وهي قرية بالشام قريبة من الأردن- فسألوه: عن أي شيء تستفهم وتطلب معرفته؟ فقال: أسألكم عن نخلها هل يثمر؟ فأجابوه: نعم، فأخبرهم أنها تقرب ألا تثمر ولا تخرج تمرا، ثم سألهم عن بحيرة الطبرية، -وهي بالأردن- هل فيها ماء؟ فأجابوه: هي كثيرة الماء، فقال: إن ماءها يوشك ويقرب أن يذهب ويجف، ثم سألهم عن عين زغر -وهي بلدة بالشام قليلة النبات- فسألوه عن أي شيء يستفهم من شأنها؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهل تلك العين أو البلدة بماء العين؟ فأجابوه: نعم، هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها
ثم سألهم: أخبروني عن نبي الأميين، أي: العرب، وسموا بذلك لأن الغالب منهم كان لا يكتب ولا يحسب، ويقصد بنبي الأميين نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، «ما فعل؟» أي: ما صنع بعدما بعث؟ فأجابوه: قد خرج من مكة ونزل بيثرب، أي: هاجر منها إلى المدينة، وكانت المدينة تسمى يثرب قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها، فسألهم عن قتال العرب للنبي صلى الله عليه وسلم، فأجابوه: نعم قاتلوه؛ وذلك أن قريشا -وهي قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم- وغيرها من العرب قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من غزوة، فسأل: كيف صنع بهم، فأخبروه أنه قد ظهر عليهم ونصره الله على من يقربه من العرب، وأطاعوه، فقال الرجل لتميم وأصحابه: أما إن ذلك خير لهم أن يطيعوه؛ وذلك لأن من أطاع النبي صلى الله عليه وسلم فاز بالجنان، ومن عصاه باء بالخسران
ثم قال الرجل: وإني مخبركم عني، أي: عن حقيقتي وشأني، إني أنا المسيح، أي: الدجال الذي سيخرج آخر الزمان، وسمي مسيحا؛ لأنه ممسوح العين مطموسها، فهو أعور، أو لأنه يمسح الأرض يقطعها في أيام معلومة، وإنه يوشك ويقترب أن يؤذن لي في الخروج عن هذه الجزيرة، فأخرج منها، فأسير في الأرض مشارقها ومغاربها، فلا أترك قرية من قرى الأرض ولا بلدة من بلدانها إلا نزلتها ودخلتها، وذلك في أربعين ليلة، وهذا بيان لسرعته وما أمكنه الله عليه، وأيضا لبيان سرعة إجابة أهل تلك البلدان واتباعهم له، إلا أنه لا يقدر على دخول مكة وطيبة، وهي المدينة، ويقال لها أيضا: طابة، وكل ذلك مأخوذ من الطيب، وهو الطهارة؛ لطيبها بطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: لطيب العيش بها، وقيل: لطيب أرضها، فهما محرمتان عليه، وممنوع من دخولهما؛ كلما أراد أن يدخل واحدة منهما استقبله ملك من الملائكة بيده السيف صلتا، أي: مسلولا؛ يصده ويمنعه من دخولها، وإن على كل نقب -وهو كل طريق أو باب- ملائكة يحرسونها ويحفظونها عن الآفات والبليات
وتخبر فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم طعن بمخصرته، أي: ضرب بعصاه في المنبر، تنبيها لمن يسمعه، ولأهمية ما هو آت في خطبته، وقال: هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة كررها ثلاثا، يعني المدينة، وهذا تأكيد على فضلها، وأن لها مثل الذي لمكة من الفضل والحرمة والحفظ من الله عز وجل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ألا» وهي كلمة تقال للتنبيه، هل كنت حدثتكم بمثل هذا الحديث؟ فقال الناس: نعم، وبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعجبه حديث تميم رضي الله عنه؛ لأنه وافق ما كان يحدثهم به عن الدجال وتحذيرهم إياه، ومن عدم قدرة الدجال على دخول مكة والمدينة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا إنه -أي: الدجال- في بحر الشام -وهي الآن تشمل: سورية، والأردن، وفلسطين، ولبنان- أو بحر اليمن، أراد ببحر الشام ما يلي الجانب الشامي من البحر، أو في بحر اليمن أراد به ما يلي الجانب اليمني من البحر، والبحر واحد، وإنما ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم بحرف (أو) إما لأن الوحي لم يكن نازلا بالتصريح بمحله، بل قاله على ظن، ثم عرض له ظن آخر، وإما لتنقل الدجال من بعضها إلى بعض
ثم أكد النبي صلى الله عليه وسلم الجهة التي هو فيها، فقال: لا، بل من قبل المشرق، أي: في جهته، والمعنى: ليس هو في بحر الشام ولا في بحر اليمن، بل هو في جهة المشرق، ثم أكد صلى الله عليه وسلم ذلك بـ(ما) الزائدة وبالتكرار اللفظي مرتين، للإسماع والتأكيد والتنبيه على ما سبق منه صلى الله عليه وسلم في تحديد جهة الدجال الذي هو فيها الآن
ثم قالت فاطمة بنت قيس: فحفظت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي الحديث: ثبوت الجساسة
وفيه: ثبوت المسيح الدجال.
وفيه: معجزة النبي صلى الله عليه وسلم وإخباره عن الغيبيات.
وفيه: خطبة الإمام عند الأمور المهمة.
وفيه: فضل مكة والمدينة وحفظ الله لهما من الدجال.