باب فى صفايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأموال
حدثنا القعنبى عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت إن أزواج النبى -صلى الله عليه وسلم- حين توفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبى بكر الصديق فيسألنه ثمنهن من النبى -صلى الله عليه وسلم- فقالت لهن عائشة أليس قد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « لا نورث ما تركنا فهو صدقة ».
قوله : ( لا يقتسم ) كذا لأبي ذر عن غير الكشميهني وللباقين " لا يقسم " بحذف التاء الثانية ، قال ابن التين : الرواية في الموطأ وكذا قرأته في البخاري برفع الميم على أنه خبر ، والمعنى : ليس يقسم ، ورواه بعضهم بالجزم كأنه نهاهم إن خلف شيئا لا يقسم بعده ، فلا تعارض بين هذا وما تقدم في الوصايا من حديث عمرو بن الحارث الخزاعي ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دينارا ولا درهما ويحتمل أن يكون الخبر بمعنى النهي فيتحد معنى الروايتين ، ويستفاد من رواية الرفع أنه أخبر أنه لا يخلف شيئا مما جرت العادة بقسمته كالذهب والفضة ، وأن الذي يخلفه من غيرهما لا يقسم أيضا بطريق الإرث بل تقسم منافعه لمن ذكر
قوله : ( ورثتي ) أي بالقوة لو كنت ممن يورث ، أو المراد لا يقسم مال تركه لجهة الإرث فأتى بلفظ " ورثتي " ليكون الحكم معللا بما به الاشتقاق ، وهو الإرث ، فالمنفي اقتسامهم بالإرث عنه ؛ قاله السبكي الكبير
قوله : ( ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة ) تقدم الكلام على المراد بقوله : " عاملي " في أوائل فرض الخمس مع شرح الحديث وحكيت فيه ثلاثة أقوال ، ثم وجدت في " الخصائص لابن دحية " حكاية قول رابع أن المراد خادمه ، وعبر عن العامل على الصدقة بالعامل على النخل وزاد أيضا وقيل الأجير ، ويتحصل من المجموع خمسة أقوال : الخليفة ، والصانع ، والناظر ، والخادم ، وحافر قبره عليه الصلاة والسلام ، وهذا إن كان المراد بالخادم الجنس ، وإلا فإن كان الضمير للنخل فيتحد مع الصانع أو الناظر ، وقد ترجم المصنف عليه في أواخر الوصايا " باب نفقة قيم الوقف " وفيه إشارة إلى ترجيح حمل العامل على الناظر
ومما يسأل عنه تخصيص النساء بالنفقة والمؤنة بالعامل وهل بينهما مغايرة؟ وقد أجاب عنه السبكي الكبير بأن المؤنة في اللغة القيام بالكفاية والإنفاق بذل القوت ، قال : وهذا يقتضي أن النفقة دون المؤنة ، والسر في التخصيص المذكور الإشارة إلى أن أزواجه - صلى الله عليه وسلم - لما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة كان لا بد لهن من القوت فاقتصر على ما يدل عليه ، والعامل لما كان في صورة الأجير فيحتاج إلى ما يكفيه اقتصر على ما يدل عليه انتهى ملخصا ، ويؤيده قول أبي بكر الصديق : " إن حرفتي كانت تكفي عائلتي فاشتغلت عن ذلك بأمر المسلمين " فجعلوا له قدر كفايته . ثم قال السبكي : لا يعترض بأن عمر كان فضل عائشة في العطاء ; لأنه علل ذلك بمزيد حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها . قلت : وهذا ليس مما بدأ به لأن قسمة عمر كانت من الفتوح
وأما ما يتعلق بحديث الباب ففيما يتعلق بما خلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه يبدأ منه بما ذكر ، وأفاد - رحمه الله - أنه يدخل في لفظ " نفقة نسائي " كسوتهن وسائر اللوازم وهو كما قال ، ومن ثم استمرت المساكن التي كن فيها قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - كل واحدة باسم التي كانت فيه ، وقد تقدم تقرير ذلك في أول فرض الخمس ، وإذا انضم قوله : " إن الذي نخلفه صدقة " إلى أن آله تحرم عليهم الصدقة تحقق قوله : " لا نورث " ، وفي قول عمر : " يريد نفسه " إشارة إلى أن النون في قوله : " نورث " للمتكلم خاصة لا للجمع ، وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم بلفظ نحن معاشر الأنبياء لا نورث فقد أنكره جماعة من الأئمة ، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ " نحن " لكن أخرجه النسائي من طريق ابن عيينة ، عن أبي الزناد بلفظ إنا معاشر الأنبياء لا نورث الحديث أخرجه عن محمد بن منصور ، عن ابن عيينة عنه ، وهو كذلك في مسند الحميدي عن ابن عيينة وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه
وأورده الهيثم بن كليب في مسنده من حديث أبي بكر الصديق باللفظ المذكور ، وأخرجه الطبراني في " الأوسط " بنحو اللفظ المذكور ، وأخرجه الدارقطني في " العلل " من رواية أم هانئ عن فاطمة - عليها السلام - عن أبي بكر الصديق بلفظ " إن الأنبياء لا يورثون " ، قال ابن بطال وغيره : ووجه ذلك - والله أعلم - أن الله بعثهم مبلغين رسالته وأمرهم أن لا يأخذوا على ذلك أجرا كما قال : قل لا أسألكم عليه أجرا وقال نوح وهود وغيرهما نحو ذلك ، فكانت الحكمة في أن لا يورثوا لئلا يظن أنهم جمعوا المال لوارثهم ، قال : وقوله تعالى : وورث سليمان داود حمله أهل العلم بالتأويل على العلم والحكمة ، وكذا قول زكريا فهب لي من لدنك وليا يرثني
وقد حكى ابن عبد البر أن للعلماء في ذلك قولين ، وأن الأكثر على أن الأنبياء لا يورثون ، وذكر أن ممن قال بذلك من الفقهاء إبراهيم بن إسماعيل ابن علية ، ونقله عن الحسن البصري عياض في " شرح مسلم " ، وأخرج الطبري من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله تعالى حكاية عن زكريا : وإني خفت الموالي قال : العصبة . ومن قوله : فهب لي من لدنك وليا يرثني قال : يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة ، ومن طريق قتادة عن الحسن نحوه لكن لم يذكر المال ، ومن طريق مبارك بن فضالة عن الحسن رفعه مرسلا رحم الله أخي زكريا ما كان عليه من يرث ماله
قلت : وعلى تقدير تسليم القول المذكور فلا معارض من القرآن لقول نبينا - عليه الصلاة والسلام - : لا نورث ، ما تركنا صدقة فيكون ذلك من خصائصه التي أكرم بها ، بل قول عمر : " يريد نفسه " يؤيد اختصاصه بذلك ، وأما عموم قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم إلخ فأجيب عنها بأنها عامة فيمن ترك شيئا كان يملكه ، وإذا ثبت أنه وقفه قبل موته فلم يخلف ما يورث عنه فلم يورث ، وعلى تقدير أنه خلف شيئا مما كان يملكه فدخوله في الخطاب قابل للتخصيص لما عرف من كثرة خصائصه ، وقد اشتهر عنه أنه لا يورث فظهر تخصيصه بذلك دون الناس . وقيل الحكمة في كونه لا يورث حسم المادة في تمني الوارث موت المورث من أجل المال ، وقيل لكون النبي كالأب لأمته فيكون ميراثه للجميع ، وهذا معنى الصدقة العامة
وقال ابن المنير في الحاشية : يستفاد من الحديث أن من قال داري صدقة لا تورث أنها تكون حبسا ولا يحتاج إلى التصريح بالوقف أو الحبس ، وهو حسن لكن هل يكون ذلك صريحا أو كناية؟ يحتاج إلى نية ، وفي حديث أبي هريرة دلالة على صحة وقف المنقولات ، وأن الوقف لا يختص بالعقار لعموم قوله : ما تركت بعد نفقة نسائي إلخ