باب فى نسخ نفير العامة بالخاصة
حدثنا أحمد بن محمد المروزى حدثنى على بن الحسين عن أبيه عن يزيد النحوى عن عكرمة عن ابن عباس قال (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) و (ما كان لأهل المدينة) إلى قوله ( يعملون) نسختها الآية التى تليها (وما كان المؤمنون لينفروا كافة)
كان ابنُ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما عالِمًا فقيهًا، وأصابَتْه دعوةُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالفقهِ في الدِّين وتعليمِ التَّأويلِ
وهذا الحديثُ فيه بيانٌ لرأيِ ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما في نَسْخِ بَعضِ آياتِ القرآنِ الكريمِ، وفيه "أنَّه قال"، أي: في قولِه تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة: 39]، وأصلُ النَّفْرِ مُفارَقةُ مكانٍ إلى مكانٍ لأمرٍ هامٍّ، ومَعناه هنا إنْ لم تَخرُجوا مِن مَنازلِكم إلى الغَزوِ والجِهادِ، وتُجاهِدوا معَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقيل: إنَّ هذه الآيةَ خاصَّةٌ فيمَنِ استَنفرَه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولم يَنفِرْ، {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}؛ قيل: العَذابُ الأليمُ إمساكُ المطَرِ عَنهم.
وقال ابنُ عبَّاسٍ أيضًا في قولِه تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبة: 120]، إلى قوله: {يَعْمَلُونَ} [التوبة: 121]، وتَمامُه: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120- 121] إذا غزَا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وخرَج للجهادِ فلا بُدَّ للمُسلِمينَ مِن أهلِ المدينةِ والأعرابِ حولَها أن يَخرُجوا معَه
فيقولُ ابنُ عبَّاسٍ: "نسَخَتْها"، أي: نَسَخَتْ كلَّ واحدةٍ مِنهما، أي: رفَعَت حُكمَهما- الآيةُ التي تَليها، وهي قولُه تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122]، أي: أُمِر المُسلِمون أوَّلًا أن يَنفِروا في الجِهادِ عامَّةً وكافَّةً، ثمَّ نُسِخ ذلك الأمرُ ورُفِع ذلك الحُكمُ، فأُمِروا بألَّا يَنفِروا كُلُّهم، بل تَنفِرَ طائفةٌ مِنهم وتَبقى طائفةٌ؛ ليتَفقَّهوا في دينِ اللهِ
وقيل: إنَّ هذه الآيةَ نَهيٌ مِن اللهِ للمُؤمِنينَ عن إخلاءِ بِلادِ الإسلامِ بغَيرِ مُؤمنٍ مُقيمٍ فيها، وإعلامٌ مِن اللهِ لهم أنَّ الذي يَنبَغي عليهم نَفْرُ بعضِهم دونَ بعضٍ، وذلك على مَن استُنفِر مِنهم دونَ مَن لم يُستنفَرْ، وإذا كان الأمرُ كذلك لم يَكُنْ في إحْدَى الآيتَينِ نَسْخٌ للأُخرى، وكان حُكمُ كلِّ واحدةٍ منهما ماضيًا باقيًا
وفي الحديثِ: بيانُ وُقوعِ النَّسخِ في القُرآنِ الكريمِ بعضِه ببَعضٍ