باب في الايمان 4
سنن ابن ماجه
حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار
عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا خلص الله المؤمنين من النار وأمنوا، فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا، أشد مجادلة من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار، قال: يقولون: ربنا، إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا، ويحجون معنا، فأدخلتهم النار. فيقول: اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم، لا تأكل النار صورهم، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى كعبيه، فيخرجونهم، فيقولون: ربنا أخرجنا من قد أمرتنا، ثم يقول: أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان، ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار، ثم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل".
قال أبو سعيد: فمن لم يصدق هذا فليقرأ: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما} [النساء: 40] (1).
مِن رَحمةِ اللهِ بعِبادِه في الآخرةِ: أنَّه جعَلَ الشَّفاعةَ رحمةً منه لمَن يشاءُ، وفي هذا الحديثِ بيانٌ لشَفاعةِ الصَّالحينَ مِن المُؤمنينَ في إخوانِهم الَّذين في النَّارِ، وهم الَّذين خلَطوا عملًا صالحًا وآخَرَ سيِّئًا، فدخَلوا النَّارَ تطْهيرًا لهم، ثمَّ يُخْرِجُهم اللهُ برحمتِه، حيثُ يروي أبو سعيدٍ الخُدريُّ رضِيَ اللهُ عنه: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إذا خلَّصَ اللهُ المُؤمنينَ مِن النَّارِ وأمِنُوا"، أي: إذا نجَّاهم اللهُ عزَّ وجلَّ بإبعادِهم منها، وأمِنُوا مِن الدُّخولِ فيها بعدَ المُناقشةِ والحسابِ وتعريفِ كلِّ واحدٍ بما كان منه، "فما مُجادلةَ"، أي: مُخاصمةَ ومُناقشةَ ومُحاورةَ، "أحدِكم لصاحِبِه في الحقِّ يكونُ له في الدُّنيا أشدَّ مُجادلةً مِن المُؤمنينَ لربِّهم في إخوانِهم الَّذين أُدْخِلُوا النَّارَ"، والمعنى: أنَّ مُجادلةَ النَّاسِ لبعضِهم البعضِ في الدُّنيا بسبَبِ حقٍّ يثبُتُ لهم، لا تكونُ أشدَّ مِن مُجادلةِ المُؤمنينَ لربِّهم سُبحانَه وتعالى في الآخرةِ، حين يُؤْذَنُ لهم بدُخولِ الجنَّةِ، وقد أُدْخِلَ إخوانُهم النَّارَ بسبَبِ سيِّئاتِهم، فيُناشِدونَ اللهَ سُبحانَه وتعالى أنْ يُخْرِجَ إخوانَهم مِن النَّارِ، فيَدخُلوا معهم الجنَّةَ، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "يقولونَ: ربَّنا، إخوانُنا كانوا يُصلُّونَ معنا، ويَصومونَ معنا، ويَحجُّونَ معنا، فأدخَلْتَهم النَّارَ"، والمعنى: أنَّهم يشفَعونَ في إخوانِهم مِن المُوحِّدينَ الَّذين عَمِلوا أعمالَ الإسلامِ ولكنَّهم خلَطوا معها أعمالًا سيِّئةً، فيَطلُبونَ مِن اللهِ أنْ يُشَفِّعَهم فيهم، فيَرْضى اللهُ ويُشَفِّعُهم، "فيقولُ: اذْهَبوا فأَخْرِجوا مَن عرَفْتُم منهم"، أي: إخوانَكم المَوصوفينَ بما ذكَرْتُم، "فيأتونُهم، فيَعرِفونَهم بصُوَرِهم" يعني: وُجوهِهم، والصُّورةُ تُطْلَقُ على الوجْهِ، وتُطْلَقُ على الجسمِ، "لا تأكُلُ النَّارُ صُوَرَهم"، والمُرادُ هنا مَن بهم آثارُ السُّجودِ، وآثارُها تكونُ في الأعضاءِ السَّبعةِ كما في الصَّحيحينِ: "حرَّمَ اللهُ تعالى على النَّارِ أنْ تأكُلَ أثَرَ السُّجودِ"، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "فمنهم مَن أخَذَتْه النَّارُ إلى أنصافِ ساقَيْه، ومنهم مَن أخَذَتْه إلى كعبَيْه"، أي: أنَّ العذابَ يكونُ على حسَبِ المعاصي، بخِلافِ الكَفَرةِ؛ فإنَّ النَّارَ تغمُرُهم مِن جميعِ الجِهاتِ، كما قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41]، فوُجوهُهم وغيرُها سواءٌ؛ لأنَّهم لم يَسجُدوا للهِ، "فيُخْرِجُونهم"، أي: مِن النَّارِ، "فيقولونَ: ربَّنا، أخْرَجْنا مَن قد أمَرْتَنا"، أي: أخْرَجْنا مِن النَّارِ مَن أذِنْتَ لنا في إخراجِهم، "ثمَّ يقولُ"، أي: يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ لملائكتِه: "أخْرِجوا مَن كان في قلْبِه وزنُ دينارٍ مِن الإيمانِ، ثمَّ من كان في قلْبِه وزنُ نصْفِ دينارٍ، ثمَّ مَن كان في قلْبِه مِثقالُ حبَّةٍ مِن خَردلٍ"، والخَردلُ: نباتٌ له ثمَرٌ أسودُ صغيرٌ جدًّا، يُضْرَبُ به المثَلُ في الصِّغَرِ، وهذا مِن عَظيمِ فضْلِ اللهِ على المُؤمنينَ؛ إذْ يُنَجِّيهم بإيمانِهم وإنْ كان يُحاسِبُهم على أعمالِهم أوَّلًا، ثمَّ يُدْخِلُهم الجنَّةَ بفضْلِه ورحمتِه.