باب في الرجل يؤذن ويقيم آخر
حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا عبد الله بن عمر بن غانم، عن عبد الرحمن بن زياد يعني الأفريقي، أنه سمع زياد بن نعيم الحضرمي، أنه سمع زياد بن الحارث الصدائي، قال: لما كان أول أذان الصبح أمرني يعني النبي صلى الله عليه وسلم فأذنت، فجعلت أقول: أقيم يا رسول الله؟ فجعل ينظر إلى ناحية المشرق إلى الفجر، فيقول: «لا» حتى إذا طلع الفجر نزل فبرز، ثم انصرف إلي وقد تلاحق أصحابه - يعني فتوضأ - فأراد بلال أن يقيم، فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخا صداء هو أذن ومن أذن فهو يقيم»، قال: فأقمت
في هذا الحديث يروي الصحابي زياد بن الحارث الصدائي رضي الله عنه أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه، وعاهده على الدخول في الإسلام، ثم علم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل جيشا لمحاربة قومه ليدخلوا في الإسلام، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمر الجيش بالرجوع، وتعهد بأن يأتي بقومه وهم مسلمون ومطيعون للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسرع إلى الجيش ويردهم، ولكن ناقة زياد بن الحارث رضي الله عنه كانت قد تعبت وضعفت من طول السفر، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا بدابة سريعة، فرد الجيش مرة أخرى إلى المدينة، وكتب زياد رضي الله عنه إلى قومه رسالة يدعوهم فيها إلى الدخول في الإسلام، فآمنوا، وقدم وفد منهم إلى المدينة يعلمون النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزياد بن الحارث: «يا أخا صداء، إنك لمطاع في قومك»؛ لأنهم أطاعوه، وصدقوه برسالة أرسلها إليهم وأسلموا، وهنا تواضع زياد فقال: «بل الله هو هداهم للإسلام»، فنسب هدايتهم وتوفيقهم للإسلام إلى الله تعالى، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعله أميرا على قومه لما رأى أنه مطاع فيهم، فوافق زياد على الإمارة، فكتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتابا فيه الأمر بتوليته أميرا على قومه، ثم طلب زياد رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل له شيئا من زكوات قومه ليأخذها وينتفع بها، فكتب له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كتابا آخر غير كتاب إمارته
وأخبر زياد رضي الله عنه أن هذا الحدث كان في إحدى أسفاره صلى الله عليه وسلم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل منزلا في مكان على طريق سفره، طلبا للراحة ونحوها، فأتاه أهل ذلك المكان يشكون له أميرهم، ويقولون: أخذنا وعاقبنا بسبب شر كان حدث بينهم وبين قومه في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أوفعل؟!» وهذا استنكار من النبي لفعله، فأكدوا له فعله، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وقال: «لا خير في الإمارة لرجل مؤمن»، والمراد أنه لا خير فيها لمؤمن ضعيف لم يؤد حقها، ولم يقم لرعيته برعايتها، وأما من عدل فيها، وقام بالواجب منها؛ فهو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله،ولما سمع زياد بن الحارث الصدائي رضي الله عنه أنها لا خير فيها لمؤمن؛ دخل في نفسه شيء، وكأنه كره الإمارة التي أمره بها النبي صلى الله عليه وسلم على قومه
وفي هذا الموقف جاء رجل آخر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فطلب منه أن يعطيه مالا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «من سأل الناس عن ظهر غنى»، فطلب مالا من الناس وهو يملك ما يكفيه، فسيكون جزاؤه أن يصاب بصداع في الرأس، وبمرض في البطن، ولكن هذا الرجل السائل أصر فقال: «فأعطني من الصدقة»، على اعتبار أنه فقير تحق له الزكاة والصدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات»؛ بل حكم فيها بنفسه «فجزأها ثمانية أجزاء»؛ أي: حدد الله عز وجل مصارفها، وهي المجموعة في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} [التوبة: 60]، فـ«إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك -أو أعطيناك- حقك»، فمن لم يكن من هذه الأصناف، فليس له حق في الأخذ من الزكاة
وهنا دخل في نفس زياد بن الحارث رضي الله عنه الحزن والخوف؛ لأنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه من صدقات قومه مع أنه غني
«ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتشى من أول الليل»؛ أي: سار من أول الليل، فلزمه زياد بن الحارث الصدائي، وكان رجلا قويا، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينقطعون عنه، ويستأخرون؛ لتعبهم من السير، حتى لم يبق معه أحد غير زياد بن الحارث الصدائي، فلما كان وقت أذان الفجر أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذن للصلاة، وبعد الأذان جعل يستأذن في إقامة الصلاة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ناحية المشرق لينظر ظهور الفجر، حتى إذا ظهر الفجر الصادق، نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبرز، وقضى حاجته، وتطهر، ثم عاد، وقد أتى الصحابة رضي الله عنهم يتبع بعضهم بعضا للتجهز للصلاة، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم ماء للوضوء من زياد بن الحارث رضي الله عنه، فأخبره أنه ليس معه إلا قليل من الماء لا يكفي لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم وحده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اجعله في إناء، ثم ائتني به، ففعل ما أمره به، فجاء بالماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم كفه المباركة في الماء، ففار الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وكان من بين كل إصبعين من أصابعه عين ماء تفور بالماء الغزير، وهذه معجزة أجراها الله على يدي نبيه صلى الله عليه وسلم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا أني أستحيي من ربي عز وجل لسقينا» دوابنا، «واستقينا»، فشربنا وملأنا آنيتنا، ثم أمره أن ينادي في الصحابة أن من له حاجة في الماء فليأت، ويأخذ ما يشاء، فنادى الصدائي رضي الله عنه فيهم، فأخذ من أراد منهم ما شاء من الماء، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهيأ لصلاة الصبح، فأراد بلال بن رباح أن يقيم الصلاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أخا صداء هو أذن، ومن أذن فهو يقيم»، وهذا تعليم وإرشاد للمسلمين، فأقام الصدائي رضي الله عنه الصلاة وصلوا، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة جاءه الصدائي بالكتابين اللذين قد كتبهما له الرسول بالإمارة على قومه، وبأن يأخذ بعضا من صدقات قومه، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفيه من هذين الكتابين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بدا لك»، فنحن نقبل منك ما أحببت أن تفعله من رد هذين الكتابين، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب رجوعه في ذلك؛ لأنه سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الإمارة للمؤمن، والتوعد لمن أخذ من أموال الناس بغير حق وهو غني، فترك ذلك كله؛ لأنه مؤمن، ولأنه غني، فطلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يدله على رجل يؤمره على قومه بدلا منه، فدله على رجل من الوفد الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام قومه، فأمره عليهم
ثم إن بني صداء -وهم قوم زياد رضي الله عنهم- لما رأوا معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، وفوران الماء من بين يديه، قالوا: «يا نبي الله، إن لنا بئرا إذا كان الشتاء وسعنا ماؤها» لكثرته، «واجتمعنا عليها»، ولكن إذا كان الصيف قل ماؤها، فتفرقنا على مياه حولنا، وهذا يمثل خطرا عليهم؛ لأنهم أسلموا، وكل من حولهم كفار أعداء لهم، وإن تفرقهم هذا يضعفهم في عين أعدائهم، فيغيرون عليهم، فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم أن يكثر ماء بئرهم فيكفيهم في كل الأوقات، فيجتمعوا، ولا يتفرقوا، فطلب سبع حصيات، ففركهن في يده، ودعا فيهن، ثم قال لهم: «اذهبوا بهذه الحصيات، فإذا أتيتم البئر، فألقوا واحدة واحدة، واذكروا اسم الله عز وجل»، ففعلوا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فبارك الله لهم في ماء البئر، حتى أنهم ما استطاعوا بعد ذلك أن ينظروا إلى قعر البئر؛ لكثرة مائها، وهذا من بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، واستجابة الله له
وفي الحديث: بيان معجزة فوران الماء من بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم
وفيه: الحث على عدم طلب المؤمن الضعيف للإمارة
وفيه: بيان سوء عاقبة أخذ أموال الناس بغير حق