باب في القسم بين النساء
بطاقات دعوية
عن أنس - رضي الله عنه - قال كان للنبي تسع نسوة فكان إذا قسم بينهن لا ينتهي إلى المرأة الأولى إلا في تسع وكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها فكان في بيت عائشة فجاءت زينب فمد يده إليها (4) فقالت هذه زينب فكف النبي - صلى الله عليه وسلم - يده فتقاولتا حتى استخبتا (5) وأقيمت الصلاة فمر أبو بكر - رضي الله عنه - على ذلك فسمع أصواتهما فقال اخرج يا رسول الله إلى الصلاة واحث في أفواههن التراب فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت عائشة الآن يقضي النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته فيجيء أبو بكر فيفعل بي ويفعل فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته أتاها أبو بكر فقال لها قولا شديدا وقال أتصنعين هذا؟! (م 4/ 173
حرَصَ الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم على نَقلِ كلِّ أفْعالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حتَّى ما يَحدُثُ في بَيتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أُمورٍ حَياتِيَّةٍ؛ وذلِك لمَعرفةِ كيفَ كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتعامَلُ في مَواقفِ الحياةِ المختلِفةِ؛ ليُقْتَدَى به.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنهُ أنَّه كانَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تِسعُ زَوْجاتٍ، فكانَ إذا قسَمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لكلِّ زَوجةٍ حَظَّها ونَوْبتَها في يَومِها وليلَتِها، لا يرجِعُ إلى الزَّوجةِ الَّتي باتَ عندَها أوَّلًا إلَّا بعدَ مُضيِّ تِسعِ ليالٍ؛ وذلكَ لأنَّه كانَ يَبِيتُ عندَ كلِّ واحدةٍ يومًا وليلةً، وكانَت زَوْجاتُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَجتمِعْنَ كلَّ ليلةٍ في بَيتِ الزَّوجةِ الَّتي سَيَبيتُ عندَها؛ وذلكَ للاسْتِئناسِ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والقُربِ منه، ثُمَّ تذهَبُ كلُّ واحدةٍ إلى حُجرتِها.
وذاتَ مرَّةٍ كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بيتِ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها، وفي يومِها وليلتِها، واجتمَعَتْ عِندَه زَوْجاتُه على عادتِهنَّ، فجاءتْ زَوجتُه زينبُ بنتُ جَحْشٍ رَضيَ اللهُ عنها فمدَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يدَه إلى زَينبَ كأنَّه يُلاطِفُها، وقيلَ: ظنَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّها عائشةُ؛ لأنَّه كانَ في اللَّيلِ، وكانتْ تلكَ ليلةَ عائشةَ ونوْبَتَها. فقالتْ عائشةُ: «هذِه» الَّتي مَددْتَ يدَكَ إليها هي «زَينبُ»، وكأنَّ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها أنكرَتْ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُلاطِفَ غيرَها؛ لأنَّ اللَّيلةَ ليلتُها، وهذهِ نَوْبتُها في حظِّها منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فامتَنعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن مدِّ يدِه إلى زَينبَ رَضيَ اللهُ عنها وتوقَّفَ، فتَبادلَتْ زينبُ وعائشةُ رَضيَ اللهُ عنهما القولَ والنِّزاعَ والشِّجارَ؛ بسببِ الغَيْرةِ «حتَّى استَخَبَتَا»، أي: علَتْ أصْواتُهما.
وفي تلك الأثْناءِ حانَ وَقتُ الصَّلاةِ وأُقيمَتْ، فمرَّ بهم أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنهُ وهُم على هذه الحالِ منَ اخْتلاطِ الأصْواتِ وارْتفاعِها، فسمِعَ صوتَ عائشةَ وزينبَ يَتشاجَرانِ، فقال أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنهُ: «اخرُجْ -يا رسولَ اللهِ- إلى الصَّلاةِ»، واجعَلْ في أفْواهِهنَّ التُّرابَ، وهذا كِنايةٌ عنِ الزَّجْرِ ومَنعِ ما يَحدُثُ منهما مِن خُصومةٍ وعُلوِّ أصْواتِهما، والحَثيةُ: قَدرُ ما يَملأُ الكَفَّينِ.
فخرَجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الصَّلاةِ، فقالتْ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها لمَن عندَها بعدَما خرَجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ معَ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنهُ: «الآنَ يَقْضي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَلاتَه، فيَجيءُ أبو بكرٍ فيَفعَلُ بي ويَفعَلُ»، أي: إنَّ أبا بَكرٍ إذا انْتَهى من صَلاتِه معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، سيَأْتي إليَّ ويُعنِّفُني ويَزجُرُني زَجرًا شَديدًا لِمَا فعلْتُ، كما يفعَلُ الوالِدُ بابنَتِه منَ التَّأديبِ ونَحوِه.
ووقَعَ ما خَشِيَته عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها؛ فلمَّا أنْهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَلاتَه، جاءها أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فلامَها وعنَّفَها وزَجَرَها زَجرًا شَديدًا على ما صنَعَتْ من رَفعِ الصَّوتِ عندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقال أبو بَكرٍ لعائشةَ: «أتَصنَعينَ هذا؟!»، وهذا عتابٌ لها على ما كان مِنها مِن نِزاعٍ معَ زينبَ عندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي الحَديثِ: بيانُ ما كان مِن عَدلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بينَ زَوْجاتِه، وما كان ذلكَ مِن مُلاطَفةٍ لهنَّ وحُسنِ خُلقهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَعَهنَّ.
وفيه: القَسْمُ بينَ الزَّوجاتِ.
وفيه: مَنقَبةٌ لأبي بكرٍ رَضيَ اللهُ عنهُ؛ لِمَا أشفَقَ بهِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: إشارةُ المفضولِ على صاحِبِه الفاضِلِ بمصلَحَتِه.