باب في فضل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه 1

بطاقات دعوية

باب في فضل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه 1

عن عبد الله بن الصامت قال قال أبو ذر - رضي الله عنه - خرجنا من قومنا غفار وكانوا يحلون الشهر الحرام فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا فنزلنا على خال لنا فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا فحسدنا قومه فقالوا إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس فجاء خالنا فنثا (3) علينا الذي قيل له فقلت أما ما مضى من معروفك فقد كدرته ولا جماع لك فيما بعد فقربنا صرمتنا (4) فاحتملنا عليها وتغطى خالنا ثوبه فجعل يبكي فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها (5) فأتيا الكاهن فخير أنيسا فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها قال وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث سنين قلت لمن قال لله قلت فأين توجه قال أتوجه حيث يوجهني ربي عز وجل أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء (6) حتى تعلوني الشمس فقال لي (7) أنيس إن لي حاجة بمكة فأكفني فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي (8) ثم جاء فقلت ما صنعت قال لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله تبارك وتعالى أرسله قلت فما يقول الناس قال يقولون شاعر كاهن ساحر وكان أنيس أحد الشعراء. قال أنيس لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر (1) فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون قال قلت فاكفني حتى أذهب فأنظر قال فأتيت مكة فتضعفت رجلا منهم (2) فقلت أين هذا الذي تدعونه الصابئ (3) فأشار إلي فقال الصابئ فمال علي أهل الوادي بكل مدرة (4) وعظم حتى خررت مغشيا علي قال فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر (5) قال فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء وشربت من مائها ولقد لبثت يا ابن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن (6) بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع (7) قال فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان (8) إذ ضرب على أسمختهم فما يطوف بالبيت أحد وامرأتان منهم تدعوان إسافا ونائلة قال فأتتا علي في طوافهما فقلت أنكحا أحدهما الأخرى قال فما تناهتا عن قولهما (9) قال فأتتا علي فقلت هن مثل الخشبة غير أني لا أكني (10) فانطلقتا تولولان وتقولان لو كان ههنا أحد من أنفارنا قال فاستقبلهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وهما هابطان قال ما لكما قالتا الصابئ بين الكعبة وأستارها قال ما قال لكما قالتا إنه قال لنا كلمة تملأ الفم (11) وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى استلم الحجر وطاف بالبيت هو وصاحبه ثم صلى فلما قضى صلاته قال أبو ذر فكنت أنا أول من حياه بتحية الإسلام قال فقلت السلام عليك يا رسول الله فقال وعليك ورحمة الله ثم قال من أنت قال قلت من غفار قال فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته فقلت في نفسي كره أن انتميت إلى غفار فذهبت آخذ بيده فقدعني صاحبه (12) وكان أعلم به مني ثم رفع رأسه فقال متى كنت ههنا قال قلت قد كنت ههنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم قال فمن كان يطعمك قال قلت ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما أجد على كبدي سخفة جوع قال إنها مباركة إنها طعام طعم (1) فقال أبو بكر - رضي الله عنه - يا رسول الله ائذن لي في طعامه الليلة فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وانطلقت معهما ففتح أبو بكر - رضي الله عنه - بابا فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف كان (2) ذلك أول طعام أكلته بها ثم غبرت ما غبرت (3) ثم أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال إنه قد وجهت لي أرض (4) ذات نخل لا أراها إلا يثرب فهل أنت مبلغ عني قومك عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم فأتيت أنيسا فقال ما صنعت قلت صنعت أني قد أسلمت وصدقت قال ما بي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت فأتينا أمنا فقالت ما بي رغبة عن دينكما فإني قد أسلمت وصدقت فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا فأسلم نصفهم وكان يؤمهم أيماء بن رحضة الغفاري وكان سيدهم وقال نصفهم إذا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أسلمنا فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فأسلم نصفهم الباقي وجاءت أسلم فقالوا يا رسول الله إخوتنا نسلم على الذي أسلموا عليه فأسلموا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله. (م 7/ 153 - 155)

 

كان الصَّحابيُّ الجليلُ أبو ذَرٍّ الغِفاريُّ قبْلَ إسلامِه يَرفُضُ الشِّركَ باللهِ وعِبادةَ الأصنامِ والأوثانِ، وكان يَبحَثُ عن طَريقِ اللهِ وتَوحيدِه، وكيْف يَصِلُ إلى الحقِّ، وقَطَع في رِحلتِه أشواطًا حتَّى سَمِع ببَعثةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في مكَّةَ، فرَحَلَ إليه ودخَلَ في الإسلامِ طائعًا مُختارًا، وكان مِن السَّابقينَ الأوائلِ.
وفي هذا الحديثِ يَحْكي أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه وأهلَ بَيتِه خَرجُوا مِن قومِهم «غِفار» وهي فرْعٌ مِن قَبيلةِ بني كِنانةَ، وكانوا يُحلُّون الشَّهرَ الحرامَ، أي: كان قَومُه يُجِيزون القتالَ في الأشهُرِ الحُرمِ، ويَسْتبيحونها رَغْمَ حُرمتِها، ويَفعَلون فيها ما يَفعَلون في الأشهُرِ غيرِ ‌الحُرُمِ، وهذا على غيرِ عادةِ العربِ في الجاهليَّةِ مِن تَعظيمِ الأشهُرِ الحُرُمِ، وامتناعِهم عن القِتالِ فيها، والَّتي أقَرَّها عليهم الإسلامُ بعْدَ مَبعَثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتلك الأشهُرُ هي: ذو القَعدةِ، وذو الحِجَّةِ، والمحرَّمُ، ورَجبٌ، فرَحَلَ عنهم أبو ذَرٍّ وأخوه أُنَيْسٌ -وكان أكبَرَ منه- وأُمُّهم رَمْلةُ بنتُ الوقيعةِ الغِفاريَّةُ حيثُ كانوا لا يَرْضَوْنَ عَن فِعلِ غِفارٍ، فلأجْلِ المنكَرِ الَّذي كانتْ عليه غِفارٌ خَرَجوا منها، وأخبَرَ أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّهم نَزَلوا على خالٍ لهم في بَلدتِه، فَأكرَمهم وأحْسَنَ ضِيافتَهم، «فَحسدَنَا قومُه»، أي: أفْسَدوا بيْننا وبيْنه، فقالوا له لِيُوغِروا صَدْرَه عليهم: إنَّكَ إذا خرَجْتَ عَن «أَهلِكَ» يريدون زوجته «خالَفَ إليهم أُنَيْسٌ»، يعني: جاءَ أُنَيْسٌ إلى زَوجتِه فيَزْني بها، فَجاءَ خالُنا «فَنَثَا» علينا الَّذي قِيل له، أي: أَفْشَى علينا وأَشاعَ ما قِيل له، فقالَ أبو ذرٍّ له: «أمَّا ما مَضى مِن مَعروفِكَ» يُريدُ إكرامَه وضِيافتَه لهم، فَقدْ «كدَّرْتَه»، أي: أَفسدْتَه بِقولِكَ، «ولا جِماعَ لك فيما بعدُ»، أي: لا اجِتماعَ يَبقَى بَينَنا، بلْ نُفارِقُكَ لسُوءِ الظَّنِّ واتِّباعِ كَذِبِ قَومِكَ فِينا دونَ وَجهِ حقٍّ.
قال أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه: فَقرَّبْنا «صِرْمَتَنَا» وهي: القِطعةُ مِنَ الإبِل أوِ الغنمِ، وعدَدُها ما بيْنَ العشَرةِ إلى الأربعينَ، فحَمَلوا عليها حاجاتِهم وأمْتعتَهم، ورَكِبوا لِيُغادِروا مِن عِنده، فلمَّا رأى ذلك العزمَ على الارتحالِ مِن عنده، تَغطَّى خالُه بثَوبِه وَجَعلَ يَبكي؛ تأثُّرًا ونَدمًا على الخطأ الَّذي فَعلَه.
فَانْطلَقوا وذَهَبوا مِن عِنده حتَّى نَزلْوا بِحضرةِ مكَّةَ، أي: بمَوضعٍ قَريبٍ مِن مكَّةَ ولم يَدْخُلوها، «فَنافَرَ أُنَيْسٌ عَن صِرْمَتِنا وعَن مِثلِها»، والمعنى: أنَّهم كانوا في الجاهليَّةِ يَتفاخَرُونَ بِالشِّعْرِ أَيُّهمْ أشعرُ مِنَ الآخَرِ، ويَتحاكمونَ إلى رجلٍ ثالثٍ يَقضي بيْنَهم أَيُّهُما أشعرُ مِنَ الآخَرِ، فتَراهَنَ هو وآخَرُ أيُّهما أفضَلُ، وكان الرَّهنُ صِرمةَ هذا، وصِرمةَ ذاك، فجعَلَ أَنيسٌ القطيعَ مِنَ الغنمِ الَّذي مَعه رهنًا، وكان ذلك الرَّجلُ الآخَرُ كان معه قَطيعٌ آخَرُ جَعَلَه رهنًا أيضًا؛ فأيُّهما كان أفضَلَ أخَذَ الصِّرمتينِ، فتَحاكَما إلى الكاهنِ، فحَكَم بأنَّ أُنيسًا أفضَلُ، وهو مَعنى قولِه: «فخَيَّر أُنَيسًا»؛ أي: جَعَله الخيارَ والأفضَلَ.
ثُمَّ يَحكي أبو ذرٍّ مُخاطِبًا ابنَ أخيهِ والرَّاويَ عنه التَّابعيَّ عبدَ اللهِ بنَ الصامتِ أنَّه كان يُصلِّي ويَتعبَّدُ قبْلَ أنْ يَلقى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِثلاثِ سنينَ -وفي رِوايةٍ: سَنتينِ- ويُؤمِنَ به، وظاهرُه أنَّ تلك الصَّلاةَ تَختلِفُ في أفعالِها عن الصَّلاةِ المشروعةِ، فسَألَه عبدُ اللهِ لِمَنْ هذه الصَّلاةُ ولم تكُنْ آمنتَ قبلُ؟ فَأجابَ: للهِ، فسَأله: فَأينَ تَتوجَّهُ؟ بمعنى: إلى أيِّ قِبلةٍ كُنتَ تَتوجَّهُ إليها في صَلاتِكَ؟ فَأجابَ: أَتوجَّهُ حيثُ يُوجِّهُني ربِّ، أي: إنَّه يَجتهِدُ في تَحديدِ إلى أيِّ الجِهاتِ يُصلِّي، ولا يَخُصُّ جِهةً مُعيَّنةً يَتوجَّهُ إليها على غيرِ عادةِ النَّصارى واليهودِ في ذلك الوقتِ؛ حيث كانت قِبلةُ اليهودِ إلى بَيتِ المقدِسِ، وقِبلةُ النَّصارى إلى المشرِقِ. فكان أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه يُصلِّي عِشاءً -وهو وقتُ أوَّلِ اللَّيلِ- ويَظَلُّ يُصلِّي صَلاةً طَويلةً يَستمِرُّ بها إلى آخِرِ اللَّيلِ ثمَّ يَضْطجِعُ على فِراشِه كأنَّه «خَفاءٌ» أي: كأنَّه ثِيابٌ مُلقاةٌ لا تَتحرَّكُ مِن تَعبِ العبادةِ حتَّى تَعلُوَه الشَّمسُ، أي: تَطلُعَ ويَظهَرَ ضَوؤها ويَتسلَّطَ عليه شُعاعُها، فَتُوقظَه.
وبعْدَ أنْ نَزَلوا حَضْرةَ مكَّةَ وقُرْبَها، أخبَرَ أُنيسٌ أخاهُ أبا ذَرٍّ أنَّه يُريدُ أنْ يأتيَ مكَّةَ لِيَقضيَ لنَفسِه حاجةً هناك، وطَلَب منه أنْ يَكفِيَه خِدمةَ أُمِّه ورِعايةَ الإبِلِ ونحْوَ ذلك، ثمَّ انطلَقَ أُنيسٌ حتَّى جاء مكَّةَ، قال أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه: «فَراثَ علَيَّ»، أي: أَبْطأَ وتأخَّرَ في الرُّجوعِ مِن مكَّةَ، ثُمَّ جاء وعاد فَسألَه أبو ذّرٍّ: ما صنَعتَ؟ فأجابَ أنَّه لَقِيَ رجلًا -يَقصِدُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بِمكَّةَ على دِينِ أبي ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه، ويَقصِدُ بذلك رفْضَ الأصنامِ كلِّها، وإنَّما قال له ذلك لأنَّ أُنيسًا كان يرى أبا ذَرٍّ على التَّوحيدِ، وأخبَرَ أُنيسٌ أنَّ ذلك الرَّجلَ يَزعمُ أنَّ اللهَ أرسلَه وبَعَثَه إلى النَّاسِ بالتَّوحيدِ وتَركِ الشِّركِ باللهِ، فسَألَه أبو ذَرٍّ عمَّا يقولُ النَّاسُ في شَأنِه، فَأجابَه أُنَيسٌ: «يَقولون: شاعرٌ، كاهِنٌ، ساحِرٌ» أي: إنَّهم يَتَّهِمونه ولا يُؤمِنون به.
وكان أُنيسٌ أحدَ الشُّعراءِ، وقال أُنيسٌ مُعلِّقًا على ما يقولُه النَّاسُ في النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لقدْ سَمِعْتَ قولَ الكهنةِ -وهُم مَن يَدَّعونَ مَعرفةَ الغيبِ- فما هو بِقولِهم، ولقد وضعْتُ قولَه على «أقراءِ» الشِّعْرِ، أي: على طُرقِه وأنواعِه، «فما يَلتئِم»، أي: لا يَجتمِعُ ولا يُوافقُ تلك الطُّرقَ والأنواعَ على لسانِ أحدٍ بَعدي أنَّه شِعرٌ، أي: ولا يَستطيعُ أحدٌ أنْ يقولَ: إنَّه شِعرٌ، ثُمَّ أقسَم أُنَيسٌ باللهِ أنَّ ذلك الرَّجلَ لَصادقٌ فيما يقولُه مِن إثباتِ التَّوحيدِ ونَفيِ الشِّركِ ودَعْوى الرِّسالةِ، وأنَّ قُريشًا وأهلَ مكَّةَ لَكاذبونَ فيما يَقولونه مِن أنَّه شاعرٌ، كاهنٌ، ساحرٌ.
فطَلَبَ أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه مِن أخيهِ أُنَيسٍ أنْ يَكفِيَه ما عليه مِن خِدمةِ أُمِّه ورِعايةِ الإبِلِ حتَّى يَذهَبَ إلى مكَّةَ، فيَنظُرَ في أمْرِه ويَعرِفَ حَقيقةَ شأنِه، وفي رِوايةٍ: قال أُنيسٌ: «نَعمْ، وكنْ على حذَرٍ مِن أهلِ مكَّةَ؛ فإنَّهم قد شَنِفُوا له، وتجهَّمُوا»، أي: عادَوْه وأَبغضُوه وقَابَلُوه بِوجوهٍ كريهةٍ مُبغِضَةٍ، فذَهَب أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه إلى مكَّةَ، يقولُ: «فَتضعَّفْتُ رَجلًا منهم»، يعني: نظرْتُ إلى أضعَفِهم؛ لأنَّ الضَّعيفَ قليلُ المَضرَّةَ، فسَأله: أيْن هذا الَّذي تَدْعُونَه وتُسمُّونَه الصَّابِئَ؟ وهو الخارجُ عن دِينِ آبائهِ، والمرادُ به هنا: النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ العرَبَ كانت تُسمِّيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الصَّابئَ؛ لأنَّه خَرَج وتَرَك دِينَ قُريشٍ ودَعا إلى دِينِ الإسلامِ العظيمِ، فَأشارَ ذلك الضَّعيفُ لقَومِه إلى أبي ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه، وقال: الصَّابئُ، أي: خُذُوا هذا الصَّابِئَ واضرِبُوه، فمالَ واجتَمَعَ عليه جميعُ أهلِ الوادي -وهُم أهلُ مكَّةَ- بالضَّربِ بكلٍّ «مَدَرةٍ وعظْمٍ»، والمدَرَةُ: الطِّينُ المتماسِكُ يكونُ بِقدْرِ الكفِّ، فضَرَبوه حتَّى فقَدَ وَعْيَه مِن كثرةِ الضَّربِ.
قال أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه: فارتفعْتُ حين ارتفعْتُ كأنِّي نُصُبٌ أحمُر»، أي: لَمَّا أفاقَ كأنّه لِجريانِ دَمِه مِنَ الجراحةِ الَّتي أُصيب بها أَحدُ الأنصابِ، وهي الحجارةُ الَّتي كانوا يَذبحونَ عليها، فَتحمَرُّ بِالدِّماءِ، فَأتى بِئرَ زمزمَ فَغسل عن نفسه الدِّماءَ، وشَرب منِ مائها، ويُخبِرُ أنَّه مكَثَ في مكَّةَ ثلاثينَ بَيْنَ ليلةٍ ويومٍ مُختلِطاتٍ، فتكونُ المدَّةُ خَمسةَ عشَرَ يومًا أو لَيلةً، ولم يكُنْ له طعامٌ إلَّا ماءُ زمزَمَ، فَسَمِن حتَّى «تَكسَّرَتْ» أي: انْثَنَتْ «عُكنُ بَطني» جمعُ عُكْنَةٍ، وهو الطَّيُّ الَّذي يكونُ في البطنِ لِأجْلِ السِّمنِ، ولم يَجِدْ على كَبِدِه «سخفةَ جوعٍ» أي: رِقَّةَ الجوعِ وضعْفَه وهُزالَه.
ثمَّ أخبَرَ أنَّه بيْنما أهلُ مكَّةَ في ليلةٍ «قمراءَ إِضحيانَ»، أي: مُقْمِرَة مُضيئة مُنَوِّرة. إذ ضُرِبَ على «أسْمِخَتِهم»، أي: آذانِهم، والمعنى: أنَّ القومَ ناموا، فما يطوفُ بِالبيتِ -أي: الكعبةِ- أحدٌ، ولم يَرَ أبو ذَرٍّ إلَّا امرأتَينِ منهم تَدْعُوانِ وتَعبُدانِ «إسافًا ونائلةَ» وهما صَنمانِ كان أحدُهما على الصَّفا والآخَرُ على المروةِ، فَأتَتِ المرأتانِ ناحيةَ أبي ذرِّ في طوافِهما، فقالَ: أَنْكِحا أحدَهما الأُخْرى؛ استهزاءً وسُخريةً بِالصَّنمَينِ، قال: فما تَناهتَا عَن قولِهما، أي: ما انتهَتَا مِن دُعائِهما وعِباداتِهما، فأتتِ المرأتانِ ناحيةَ أبي ذَرٍّ مرَّةً أخرى، فقال: «هَنٌ مِثلُ الخشبَةِ» والهنُ كنايةٌ عَن كلِّ شيءٍ، وأكثرُ ما يُستعملُ كنايةً عَنِ الفرْجِ والذَّكَرِ، «غيرَ أنِّي لا أكني»، يريدُ أنَّه قال كلمةً فاحشةً بِالصَّراحةِ دُونَ إشارةٍ أو كِنايةٍ، وأرادَ بِذلكَ سبَّ إسافٍ ونائلةَ وغَيْظَ المرأتينِ، فَانطلقَتَا المرأتين «تُوَلْوِلانِ»، أي: تَصيحانِ وتَقولانِ: لو كان هاهنا أحدٌ مِن «أنفارِنَا»، أي: مِن عشيرتِنا وأهلِ بيتِنا لَأغاثَنا ونَصَرَنا عليك!
وفي هذه الأثناءِ كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأبو بكرٍ قادمينِ مِن أعالي مكَّةَ -وهي جِهةُ البَطْحاءِ والمُعلَّاةِ- فقابَلا المرأتينِ، فسَألَهما النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما لكما؟ قالَتا: الصَّابئُ، يُشيرانِ إلى أبي ذَرِّ وقولِه لهما، يَجلِسُ بَيْنَ الكعبةِ وأستارِها، فسَألهما: ما قال لكُما؟ قالَتا: إنَّه قال لنا «كلمةً تملأُ الفمَ»، وهو كنايةٌ عن شِدَّةِ قُبحِها، حيثُ ملأَتِ الفمَ ولم تَترُكْ مُجالًا لِلجوابِ.
وجاءَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعْدَما مَرَّ على المرأتينِ حتَّى دَخَل المَطافَ، فاستلَمَ الحجرَ الأسودَ في أوَّلِ طَوافِه، وطافَ بِالبيتِ هو وأبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضيَ اللهُ عنه، ثُمَّ بعْدَ أنْ فَرَغ مِن طَوافِه صلَّى رَكعتَين، وفي رِوايةٍ: خلْفَ المقامِ، أي: مَقامِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فلمَّا قضَى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَلاتَه وانْتَهى منها، جاءه أبو ذرٍّ فسَلَّم عليه بتَحيَّةِ الإسلامِ: «السَّلامُ عليكَ يا رسولَ اللهِ»، ويُخبِرُ أبو ذَرٍّ أنَّه أوَّلَ مَن حيَّا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِتحيَّةِ الإسلامِ، وظاهرُه أنَّه أُلهِمَ النُّطقَ بتلك الكلمةِ؛ إذ لم يكُنْ سَمِعها قبْلَ ذلك، وعِلمُه بكونِه أوَّلَ مَن حيَّاه بها يَحتمِلُ أنْ يكونَ إلهامًا، ويَحتمِلُ أنْ يكونَ عَلِمَه بالاستقراءِ، ثمَّ أخبَرَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَدَّ عليه السَّلامَ، فقال: وعليكَ ورحمةُ اللهِ، وفي رِوايةٍ: وعليكَ السَّلامُ.
ثمَّ ذَكَر أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَأله: مَن أنتَ؟ فأخبَرَه أنَّه مِن قَبيلةِ غِفارٍ، وكانت قَبيلةً مَعروفةً بقَطْعِ الطَّريقِ، فَأهوَى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِيَدِه فَوضَعَ أصابعَه على جَبهتِه تَعجُّبًا مِن مَجيئهِ مِن بَعيدٍ، فَقال أبو ذَرٍّ في نَفْسِه: كَرِهَ أنِ انْتميتُ إلى غِفَارٍ، وأخبَرَ أنَّه أراد أنْ يُمسِكَ بِيَدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فمَنَعَه أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، ويُخبِرُ أبو ذَرٍّ أنَّ أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنهما كان أعلَمَ بشَأنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وحالِه مِن أبي ذرٍّ رَضيَ اللهُ عنه؛ فلذلك مَنَعه؛ لِعِلمِه أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يُحِبُّ ذلك.
ثُمَّ رفعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رأسَهُ، وسَأله عن الوقتِ الَّذي أقامَه في مكَّةَ، ومنذُ مَتى يُقيمُ فيها، فأخبَرَه أبو ذَرٍّ: ثلاثينَ بَيْنَ ليلةٍ ويومٍ، فسَأله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن طَعامِه في تلك المُدَّةِ، فأخبَرَه بشُربِه مِن ماءِ زَمزمَ، وأنَّه ما كان له طَعامٌ إلَّا ماءُ زَمزمَ، حتَّى سَمِنَ منها وتَكسَّرت عُكَنُ بَطنِه، ولم يَجِدْ على كَبدِه شِدَّةَ الجُوعِ وألمِه، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّها مبارَكةٌ» أي: إنَّها تَظهرُ بَركتُها على مَن صحَّ صِدقُه، وحسُنتْ فيها نِيَّتُه، «إنَّها طعامُ طُعْمٍ»، أي: تَسدُّ مَسَدَّ الطَّعامِ وتُشبِعُ شاربَها وتُقوِّيه كما يُشبعُ الطَّعامُ ويُقوِّي.
ثمَّ طَلَب أبو بَكرٍ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يَأذَنَ له في إطعامِ أبي ذَرٍّ وضِيافتِه هذه اللَّيلةَ، وفي رِوايةٍ: قال أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه: أَتْحِفْنِي بِضيافتِه اللَّيلةَ، أي: فخُصَّنِي بها وأكْرِمْنِي بذلك، فَانطلقَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأبو بكرٍ إلى مَنازلِهما ومعهما أبو ذَرٍّ، ولَمَّا بَلَغ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه مَنزِلَه فتَحَ بابًا مِن أبوابِ بيتِه، فَجعَلَ يَقبِضُ ويُقدِّمُ لهم مِن زَبيبِ الطَّائفِ، وهي بَلدةٌ تَبعُدُ عن مكَّةَ قُرابةَ 75كم، ويُخبِرُ أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ هذا الزَّبيبَ كان أوَّلَ طعامٍ يَأكُلُه بمكَّةَ مُنذُ أنْ نَزَلها.
قال أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه: ثُمَّ «غَبَرْتُ ما غَبَرْتُ»، أي: بَقِيتُ ما بَقِيتُ مِن الوقتِ في مكَّةَ، ثُمَّ أَتيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال لي: إنَّه قَد وُجِّهَتْ لي أرضٌ، أي: بُيِّنَتْ وأُظْهِرِت لي بَلدةٌ بالوحيِ ذاتُ نَخلٍ، أي: إنَّها تَشتهِرُ بالتَّمرِ وجَودتِه، أي: قدْ أُمِر صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمسلمونَ بالهجرةِ إليها، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ولا أُراها إلَّا يَثْرِبَ، وهو اسمُ المدينةِ المنوَّرةِ في الجاهليَّةِ، فهلْ أنتَ مُبلِّغٌ عنِّي قومَك؟ أي: تُبلِّغُهم برِسالتي وبالإسلامِ، عَسى اللهُ أنْ يَنفَعَهم بك بسَببِ تَبليغِكَ الدَّعوةَ إليهم، فيُؤمِنوا ويَدخُلوا الإسلامَ ويَأجُرَكَ فيهم، أي: تُثابَ على تَبليغِكَ دَعوةِ الإسلامِ، وأيضًا أجْرِ مَن أسْلَمَ منهم، وهذا تَوجيهٌ نَبويٌّ لأبي ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه بأنْ يَرجِعَ إلى وَطنِه ويَدعُوَ قَوْمَه إلى الإسلامِ، فإذا سَمِع بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أتى المدينةَ، جاءهُ هو ومَن أسْلَمَ معه مِن قَومِه.
فاستجابَ أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه لأمرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ورَجَع إلى أخيهِ وأُمِّه فسَألَه أخوه أُنَيسٌ: ما صنَعتَ؟ فأخبَرَه بإسلامِه وتَصديقهِ برِسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال أُنَيسٌ: ما بي رغبةٌ عَن دِينِكَ، أي: لا أكرهُه بل أَدخلُ فيه؛ فإني قد أسلمتُ وصدَّقْتُ، وكذلك فَعَلتْ أُمُّهما، فأسْلَمَ ثَلاثتُهم، فحَمَلوا أنفسَهم ومَتاعَهم على إِبلِهم وساروا حتَّى رَجَعوا إلى قَومِهم، فدَعَوهم إلى الإسلامِ فأسْلَمَ نِصفُهم، وأقاموا ما تَعلَّموه مِن شَعائرِ الدِّينِ، ومنها الصَّلاةُ، وكان يَؤمُّهم في الصَّلاةِ إيماءُ بنُ رَحَضَةَ الغفاريُّ، وكان سيِّدَهم ورَئيسَهم.
وقال الَّذينَ لم يُسلِموا مِن غِفارٍ: إذا قدِمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المدينةَ أسلَمْنا، فقدِمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المدينةَ، فَأسلمَ نصفُهمُ الباقي، وجاءتْ قَبيلةُ أسْلَمَ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ: غِفار إخوتُنا، ونحن نُسلِمُ على الَّذي أَسلَموا عليه فَأسلَموا كلُّهم أيضًا، فدَعا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لهاتينِ القَبيلتينِ، وقال: غِفارٌ غَفرَ اللهُ لها، وأَسلَمُ سالَمَها اللهُ؛ لأنَّهما أسلمَتَا طوعًا مِن غيرِ قتالٍ ولا إكراهٍ، ويُحتملُ أنْ يكونَ ذلك خبرًا عمَّا فَعلَ اللهُ بِهاتينِ القَبِيلتَينِ مِنَ المغفرةِ، والمُسالَمَةِ لهما.
وفي الحديثِ: أنَّ المؤمنَ يَزِنُ القولَ ويعتبرُه، ويُقَسِّمُ له الأقسامَ، ثُمَّ إذا أدَّى التَّقسيمُ إلى أنَّ الحقَّ في جهةٍ صارَ إليها.
وفيه: فضْلُ أبي ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه وتَقدُّمُ إسلامِه.
وفيه: فضْلُ ماءِ زمزمَ وبركتُه.
وفيه: بَيانُ فَضلِ القرآنِ الكريمِ، وأنَّه مِن عندِ اللهِ تَعالَى؛ فإنَّه لا يُشبِهُ كَلامَ الكُهَّانِ، ولا قَولَ الشُّعراءِ.
وفيه: بَيانُ ما كان عليه أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه مِن الصَّلابةِ في الدِّينِ.
وفيه: بَيانُ ما كان عليه الصِّدِّيقُ رَضيَ اللهُ عنه مِن الكرَمِ والسَّخاءِ.
وفيه: بَيانُ عَلمٍ مِن أعلامِ النُّبوَّةِ؛ حيث أُرِيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دارَ هِجرتِه.
وفيه: بَيانُ فَضلِ قَبيلةِ غِفارٍ.
وفيه: بَيانُ فضَلِ قَبيلةِ أسْلَمَ.