باب في مداراة النساء والوصية بهن
بطاقات دعوية
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا شهد
أمرا فليتكلم بخير أو ليسكت واستوصوا بالنساء خيرا (1) فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه إن ذهبت تقيمه كسرته (2) وإن تركته لم يزل أعوج استوصوا بالنساء خيرا. (م 4/ 178
أرشَدَنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى التَّحَلِّي بِالآدابِ والأخْلاقِ الَّتي تَزيدُ الأُلفةَ والمَوَدَّةَ بينَ المُسلِمينَ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ «مَن كانَ يُؤمِنُ باللهِ» الَّذي خَلَقَه إيمانًا كامِلًا، اعتِقادًا وعَملًا، وذلك بأنْ يَشهَدَ أنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ، ويَلتزمَ بأركانِ الإيمانِ ومَجموعِ خِصالِه مِنَ القَولِ والعَملِ.
ويُؤمِنُ «باليَومِ الآخِرِ» وهو يومُ القِيامةِ، الَّذي إليه مَعادُه، وفيه مُجازاتُه بعَمَلِه، وخصَّ الإيمانَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ مِن بَينِ سائرِ ما يجِبُ الإيمانُ به؛ للإشارةِ إلى المَبْدأِ والمَعادِ، يَعني: إذا آمَنَ باللهِ الَّذي خلَقَه، وأنَّه يُجازيهِ يومَ القِيامةِ بالخَيرِ والشَّرِّ، فلْيَقُلْ خَيرًا أو ليَصمُتْ، والمقصودُ بهذه الصِّيغةِ: الحثُّ والإغْراءُ على التزامِ الأمْرِ أو النَّهيِ الآتِي في الحَديثِ. «إذا شهِدَ أمرًا» على الإطْلاقِ، سواءٌ كانَ أمرًا بينَ اثنَينِ أو جَماعةٍ ونحوَه، واقْتَضى الحالُ أنْ يتكلَّمَ في ذلك الأمْرِ، فلْيَنظُرْ، فإنْ كانَ في كَلامِه خيرٌ، فلْيتكلَّمْ، وإلَّا فلْيَسكُتْ.
وكانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُوصِي الرِّجالَ بمُعاشَرةِ زَوْجاتِهم بالمعْروفِ مِمَّا أمَرَ به الإسْلامُ، ولَمَّا كانَ في النِّساءِ عِوَجًا بأَصْلِ خِلقَتِهنَّ، نبَّهَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ذلك، فقال: «استَوْصُوا بالنِّساءِ»، وزادَ في رِوايةِ البُخاريِّ: «خَيرًا»، يَعني: تَواصَوْا فيما بيْنَكم بالإحْسانِ إليهِنَّ؛ «فإنَّ المرأَةَ خُلِقَتْ مِن ضِلَعٍ»، والضِّلَعُ أحدُ عِظامِ الصَّدرِ، والمَعنى: أنَّ في خَلقِهنَّ عِوَجًا مِن أصْلِ الخِلْقةِ، «وإنَّ أعوَجَ شَيءٍ في الضِّلَعِ أعْلاه»، فوصَفَها بذلك للمُبالَغةِ في وصْفِ الاعْوِجاجِ، وللتَّأْكيدِ على مَعنى الكَسرِ؛ لأنَّ تَعذُّرَ الإقامةِ في الجِهةِ العُلْيا أمْرُه أظهَرُ، وقيلَ: يَحتمِلُ أنْ يكونَ ذلك مَثَلًا لأعْلى المرْأةِ؛ لأنَّ أعْلاها رأْسُها، وفيه لِسانُها، وهو الَّذي يَنشأُ منه الاعْوِجاجُ، وقيلَ: إنَّ صِيغةَ «أَعوَج» هاهنا مِن بابِ الصِّفةِ، لا مِن بابِ اسْمِ التَّفْضيلِ؛ لأنَّ أفعَلَ التَّفْضيلِ لا يُصاغُ منَ الألْوانِ والعُيوبِ، فإذا أرَدْتَ أنْ تُقيمَ الضِّلَعَ وتَجعَلَه مُستَقيمًا؛ فإنَّه يَنكَسِرُ، وكذلك المرْأةُ إنْ أَردْتَ منها الاسْتقامةَ التَّامَّةَ في الخُلُقِ أدَّى الأمرُ إلى كَسْرِها وهو طَلاقُها، كما في رِوايةِ مُسلِمٍ. «وإنْ تَركْتَه لم يَزلْ أعْوجَ» على حالِه الَّتي خُلِقَ عليها، فلا يَقبَلُ الإقامةَ، وهذا ضرْبُ مَثَلٍ لِما في أخْلاقِ النِّساءِ مِنَ الِاعْوجاجِ، فإنْ أُرِيدَ مِنهنَّ الاسْتقامةُ ربَّما أفْضَى ذلك إلى الطَّلاقِ، ثُمَّ قالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «فاستَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا»، يَعني: أنَّه لا سَبيلَ إلَّا بالصَّبرِ على هذا الاعْوِجاجِ، فيَجِبُ الصَّبرُ عليه والإحْسانُ إليهنَّ، وحُسنُ مُعاشَرتِهنَّ معَ ذلك.
أو كأنَّ فيه رمْزًا إلى التَّقْويمِ برِفقٍ، بحيثُ لا يُبالِغُ فيه فيُكسَرُ، ولا يَترُكُه فيَستمِرُّ على عوَجِه، والحاصلُ أنَّه لا يَترُكُها على الاعْوجاجِ إذا تَعدَّتْ ما طُبِعَتْ عليه مِنَ النَّقصِ إلى تَعاطي المَعْصيةِ بمُباشَرتِها، أو تَركِ الواجبِ، وإنَّما المرادُ أنْ يَترُكَها على اعْوجاجِها في الأُمورِ المُباحةِ.
وفي الحَديثِ: إرْشادٌ إلى مُراعاةِ اللِّسانِ وحِفظِه منَ اللَّغوِ.
وفيه: المُداراةُ لاسْتِمالةِ النُّفوسِ وتَألُّفِ القُلوبِ.
وفيه: سِياسةُ النِّساءِ بأخْذِ العفْوِ عنهنَّ والصَّبرِ على عِوَجِهنَّ.