باب ما أدي زكاته فليس بكنز 221 - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيما دون خمسة أواق صدقة

بطاقات دعوية

باب ما أدي زكاته فليس بكنز 221 - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيما دون خمسة أواق صدقة

 عن الأحنف بن قيس قال: جلست إلى ملأ من قريش، فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة؛ حتى قام عليهم، فسلم، ثم قال: بشر الكانزين برضف (4)، يحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم؛ حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه، حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل. ثم ولى فجلس إلى سارية، وتبعته، وجلست إليه، وأنا لا أدري من هو؟ فقلت له: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت، قال: إنهم لا يعقلون شيئا. قال لي خليلي: - قال: قلت: من خليلك؟ قال: النبي - صلى الله عليه وسلم -
"يا أبا ذر أتبصر أحدا؟ ". قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار، وأنا أرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرسلني في حاجة له، قلت: نعم، قال:
"ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله؛ إلا ثلاثة دنانير". وإن هؤلاء لا يعقلون، إنما يجمعون الدنيا، لا والله، لا أسألهم دنيا، ولا أستفتيهم عن دين؛ حتى ألقى الله عز وجل.

كان الصحابيُّ الجليلُ أبو ذَرٍّ الغِفاريُّ رَضيَ اللهُ عنه زاهدًا في الدُّنيا، قويًّا في الحقِّ، وقد ظلَّ على ذلك مُنذُ عَهدِ النُّبوَّةِ إلى وَفاتِه رَضيَ اللهُ عنه
وفي هذا الحديثِ يَروي التابعيُّ الأحنَفُ بنُ قَيْسٍ أنَّه جلَس إلى الأشرافِ مِن قُرَيشٍ، والمرادُ بهم كُبراؤُهم وأعْيانُهم، فجاء رجُلٌ خشِنُ الشَّعرِ والملابسِ والوجْهِ، وهو كِنايةٌ عن زُهْدِه، وهذا الرَّجُلُ هو أبو ذَرٍّ الغِفاريُّ رَضيَ اللهُ عنه صاحِبُ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فسلَّمَ على أهلِ المجلِسِ، ثمَّ قال: (بَشِّرِ الكانِزينَ)، فظاهرُه: أنَّه أرادَ الاحتِجاجَ لمَذهبِه في أنَّ الكَنْزَ كلُّ ما فضَلَ عن حاجةِ الإنسانِ، هذا هو المعروفُ مِن مَذهبِ أبي ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه، ورُوِي عن غيرِه، والصَّحيحُ الَّذي عليه الجمهورُ أنَّ الكَنْزَ هو المالُ الَّذي لم تُؤَدَّ زَكاتُه، فأمَّا إذا أُدِّيَتْ زَكاتُه فليس بكَنزٍ، سواءٌ كثُر أو قَلَّ، وأخبَرَهم أنَّ عِقابَ الكانِزينَ هو الحِجارةُ المُحمَاةُ في نارِ جَهنَّمَ، تُوضَعُ على حَلَمةِ ثَدْيِ أحَدِهم حتَّى تخرُجَ مِن العَظْمِ الرَّقيقِ الَّذي على طرَفِ الكتِفِ، ثمَّ يَتحرَّكُ الرَّضْفُ والحجارةُ المُحماةُ مِن نُغْضِ كتِفِه حتَّى تخرُجَ مِن حَلَمةِ ثَدْيِه. وقولُه: «يَتزَلْزَلُ» هو كنايةٌ عن شِدَّةِ حركتِه واضْطِرابِه الَّذي يَجِدُه مِن الألمِ، وقيل: إنَّ التَّزَلْزُلَ إنَّما يكونُ لِلرَّضْفِ ذهابًا وإيابًا بيْنَ نُغْضِ الكَتِفِ وحَلَمةِ الثَّدْيِ
ثمَّ انصرَف أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه فجلَس إلى ساريةٍ، وهي العَمودُ الَّذي يُقامُ عليه السَّقفُ، فتَبِعَه الأحْنَفُ بنُ قَيسٍ وجلَس إليه، ولم يكُن لأحنَفُ يَعرِفُ مَن هذا الرجُلُ، فتكلَّمَ الأحنَفُ معه، وقال: «لا أُرَى القَوْمَ إلَّا قدْ كَرِهُوا الَّذي قُلْتَ» أي: أنَّهم لم يَرضَوْا بما حدَّثْتَهم به، فقال أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه: إنَّهُم لا يَعقِلونَ شَيئًا؛ لِسَعْيِهم وحِرصِهم على جمْعِ المالِ
ثمَّ أخبَر أنَّ خَليلَه النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَأله مرَّةً: هلْ تَرى جبَلَ أُحُدٍ؟ فنَظَرَ أبو ذَرٍّ إلى الشَّمسِ وما بَقِيَ مِنَ النَّهارِ، وكان يَتصَوَّرُ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سيُرْسِلُه في حاجةٍ له، فأخبَرَه بأنَّه لو كان عِندَه مِثلُ جبَلِ أُحُدٍ ذهبًا يَملِكُه، فليس هناك أحَبُّ إلى قلبِه مِن إنفاقِه كلِّه في سَبيلِ اللهِ تعالَى، إلَّا ثلاثةَ دَنانيرَ، يَدَّخِرُها: واحدًا للأهلِ وهُم مَن تَلزَمُه نفَقتُهم مِن الزَّوجةِ والأولادِ، والثَّاني لعِتقِ رقَبةٍ وهو تَحريرُها مِن العُبوديَّةِ، والثالث لدَيْنٍ يؤَدِّيه إلى مَنِ استَدانَ منه؛ لأنَّ الدَّيْنِ معَلَّقٌ في رقَبةِ العبدِ، وإذا مات وعليه دَيْنٌ فإنَّه يُحبَسُ عن الجَنَّةِ لو كان مُؤمِنًا
ثُمَّ يُبيِّنُ أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ مَن لا يُنفِقُ في سَبيلِ اللهِ هُم ناسٌ لا يَفهَمون ولا يَعقِلونَ، وهمُّهمُ الأكبرُ الكَنزُ للدُّنيا، ثمَّ يُقسِمُ باللهِ أنَّه لنْ يَسألَ النَّاسَ دُنْيا، ولا شَيئًا مِن مَتاعِها، بل سيَقنَعُ بالبُلغةِ والقليلِ مِن الدُّنيا، ولن يَسأَلَهم عن أحكامِ دِينٍ؛ اكتِفاءً بما سَمِعه مِن العِلمِ مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى يَلْقَى ربَّه عزَّ وجلَّ
وفي الحديثِ: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان في أعْلى درَجاتِ الزُّهدِ في الدُّنيا، بحيثُ إنَّه لا يحِبُّ أن يَبقَى بيَدِه شَيءٌ مِن الدُّنيا إلَّا لإنفاقِه وصَرفِه لِمَن يَستحِقُّه
وفيه: الحثُّ على الإنفاقِ في وُجوهِ الخَيرِ
وفيه: تقديمُ الوفاءِ بالدَّينِ على صدَقةِ التطَوُّعِ
وفيه: مَشروعيَّةُ الاستِقراضِ