باب ما جاء فى إسبال الإزار
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن الأعمش عن سليمان بن مسهر عن خرشة بن الحر عن أبى ذر عن النبى -صلى الله عليه وسلم- بهذا والأول أتم قال « المنان الذى لا يعطى شيئا إلا منه ».
كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يحذر أصحابه رضي الله عنهم من سيئ الصفات وقبيح الأعمال، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على كل ما يقربهم من الجنة في الآخرة
وفي هذا الحديث يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة أنواع من الناس لا يكلمهم الله يوم القيامة كلاما يسرهم؛ استهانة بهم وغضبا عليهم، وهذه عقوبة لهم على جرم قد وقعوا فيه، وفي رواية: «ولا ينظر إليهم»، وهذه مبالغة في العقوبة؛ فلا ينظر الله إليهم نظرة رحمة فيرحمهم، «ولا يزكيهم»؛ أي: لا يطهرهم ولا يغسلهم من ذنوبهم ودناءتهم، «ولهم عذاب أليم»؛ أي: فوق كل تلك العقوبات فسوف يدخر الله لهم عذابا شديدا؛ فيضاعف عليهم العقوبة
أما الأول فهو المنان الذي يمن بالعطاء بعد أن يعطيه، والمن في العطية هو التفاضل والتعالي على الآخذ، فلا ينبغي للمنفق الامتنان على المنفق عليه، سواء بقلبه أو بلسانه؛ كأن يخبره بأنه تفضل عليه بمنحه شيئا، وأنه مدين له لقاء معروفه، ولا يقول أو يفعل أيضا مكروها للمنفق عليه ينافي ما قدمه له من إحسان، فذلك محظور؛ لما فيه من تكبر المنفق واستعلائه، واستعباد المنفق عليه، وكسر قلبه وإذلاله، بل على المعطي في سبيل الله تعالى أن يشهد دائما أن المتفضل والمنعم حقيقة هو الله تعالى وحده، وعليه أن يتفكر أيضا في أن أجره على الله تعالى بأضعاف ما أعطى، فأي حق بقي له على الآخذ المحتاج حتى يمتن عليه، أو يؤذيه بصنائع معروفه؟!
والنوع الثاني: الذي يحلف على بضاعته كاذبا؛ ليروجها ويحليها في أعين المشترين بالكذب والخداع، وهو بحلفه الكاذب قد اقترف وأوقع نفسه في أربع معاص: الحلف الكاذب، وغش المسلم، وأخذ المال بغير حق، والاستخفاف بحق الله، وفيه يقول تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} [آل عمران: 77]
والنوع الثالث: الذي يطيل ثيابه ويتركها تجرجر على الأرض تكبرا وفخرا؛ يدل على ذلك رواية الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا»، والإزار هو اللباس الذي يغطي الجزء الأسفل من الجسم
قيل: إنما جمع بين الثلاثة وقرنها؛ لأن المسبل هو المتكبر المرتفع بنفسه على الناس ويحتقرهم، والمنان إنما من بعطائه لما رأى من علوه على المعطى له، والحالف البائع يراعي غبطة نفسه، وهضم صاحب الحق؛ فتحصل من المجموع احتقار الغير، وإيثار النفس؛ ولذلك يجازيهم الله تعالى باحتقاره لهم، وعدم التفاته إليهم
وذكر هؤلاء الأصناف الثلاثة في هذا الحديث لا يعني الحصر، ولا يمنع من وجود أصناف أخرى استحقت نفس العذاب، كالشيخ الزاني، والملك الكذاب، والعائل المستكبر، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
وفي الحديث: التحذير من المن، والحلف الكاذب، والإسبال؛ فقد توعد من فعل ذلك بأشد العقوبة
وفيه: إثبات صفة الكلام والبصر لله عز وجل على الوجه اللائق به جل جلاله، من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف؛ فإن لم يكلم الأصناف الثلاثة ولم ينظر إليهم، فهو يكلم غيرهم وينظر إليهم