‌‌باب ما جاء في حرمة مكة

سنن الترمذي

‌‌باب ما جاء في حرمة مكة

حدثنا قتيبة قال: حدثنا الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح العدوي، أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير، أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به أنه: حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: " إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما، أو يعضد بها شجرة،، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له: إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لك، وإنما أذن لي فيه ساعة من النهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب "، فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم منك بذلك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيا، ولا فارا بدم، ولا فارا بخربة.: ويروى ولا فارا بخزية، وفي الباب عن أبي هريرة، وابن عباس.: «حديث أبي شريح حديث حسن صحيح» وأبو شريح الخزاعي: اسمه خويلد بن عمرو، وهو العدوي، وهو الكعبي " ومعنى قوله: «ولا فارا بخربة»، يعني: الجناية، يقول: من جنى جناية، أو أصاب دما، ثم لجأ إلى الحرم فإنه يقام عليه الحد
‌‌

تَبليغُ العِلمِ الشَّرعيِّ أمْرٌ حَتْميٌّ على العُلماءِ، ويَزدادُ وُجوبُه في وقْتِ الفتَنِ والشَّدائدِ؛ ليُبيِّنوا للناسِ الحقَّ مِن الباطلِ، ويُبيِّنوا لهم طَريقَ الهِدايةِ.

وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ أبو شُرَيحٍ الخُزاعيُّ رَضيَ اللهُ عنه -وهو الصَّحابيُّ المشهورُ، وكان مِن عُقلاءِ أهلِ المدينةِ- أنَّه طلَبَ مِن عَمرِو بنِ سَعيدٍ والي يَزيدَ بنِ مُعاويةَ على المدينةِ آنذاكَ، أنْ يَأذَنَ له أنْ يُحدِّثَه، وكان عمرُو بنُ سَعيدٍ يُرسِلُ الجيوشَ إلى مكَّةَ لقِتالِ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ رَضيَ اللهُ عنهما؛ لكونِه امتَنَعَ مِن مُبايَعةِ يَزيدَ بنِ مُعاويةَ، واعتصَمَ بالحرَمِ، فطلَبَ منه أبو شُريحٍ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يُحدِّثَه بحَديثٍ سَمِعَه مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُؤكِّدًا أنَّه سَمِعَه بأُذنِه، وفَهِمَه وحَفِظَه بقلْبِه، وهذا إشارةٌ إلى تَحقُّقِ حِفظِه عندَه مُباشرةً مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دونَ واسطةٍ أو نِسيانٍ، وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد حدَّثَ بهذا الحديثِ صَباحًا مِن يومِ فتْحِ مكَّةَ في السَّنةِ الثامنةِ مِن الهِجرةِ، وقولُه: «قَامَ به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ»، أي: كان يَخطُبُ في الناسِ بهذا الحديثِ، وبيَّن فيه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ مكَّةَ حرَّمها اللهُ تعالى بنفْسِه، وفي مُحكَمِ كِتابِه، حيثُ قال: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]، وقال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل: 91]، فلا يَحِلُّ لامرئٍ يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ أنْ يَسفِكَ بها دمًا بقِتالٍ أو غيرِه، ولا يَقطَعَ فيها شَجرةً، فإنِ استباحَ أحَدٌ القِتالَ في مكَّةَ مُستدلًّا على ذلك بقتالِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيها يومَ الفَتْحِ، فجوابُه: أنَّ اللهَ قدْ أذِنَ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالقِتالِ فيها ذلك اليومَ ساعةً مِن نَهارٍ، والمرادُ: في وقْتٍ مَحدودٍ وجُزءٍ معيَّنٍ مِن يومِ الفَتْحِ، ولم يَأذَنْ لكم أو يُحِلَّ لكم القتالَ فيها أبدًا، ثمَّ عادَتْ حُرمتُها كما كانت.ثمَّ أمَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصحابَه السامعينَ والحاضرينَ لحَديثِه هذا أنْ يُبلِّغوه مَن بعْدَهم، سواءً كانوا في زمَنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو بعْدَه؛ حتى يَحذَروا ولا يَتجرَّؤوا على ما حرَّمَ اللهُ عزَّ وجلَّ؛ خاصةً لمَن أقدَمَ على سَفْكِ الدِّماءِ وتَجهَّزَ له، كحالِ عمرِو بنِ سَعيدٍ، وهو ما جعَلَ أبا شُريحٍ رَضيَ اللهُ عنه يُحدِّثُه بهذا الحديثِ، كما أَوصى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.فسُئِلَ أبو شُريحٍ: وماذا كان ردُّ عمرٍو عليك؟ فأجابَ قال لي: أنا أعْلَمُ مِنكَ يا أبا شُرَيحٍ، إنَّ حَرَمَ مكَّةَ لا يَعصِمُ العاصيَ عن إقامةِ الحدِّ عليه، ولا يَعصِمُ هاربًا عليه دَمٌ، يَعتصِمُ بمكَّةَ كيْلا يُقتَصَّ منه، وقولُه: «بخرْبةٍ» يُرْوى بفتْحِ الخاءِ، فالمعنى: أنَّه لا يَعصِمُ سارقًا فارًّا بسَرِقَتِه، ويُرْوى بضمِّ الخاءِ، وهي: الفسادُ في الدِّينِ.

وجَوابُ عمرٍو كَلامٌ ظاهرُه حقٌّ، لكنْ أراد به الباطلَ؛ فإنَّ الصَّحابيَّ أنكَرَ عليه نَصْبَ الحرْبِ على مكَّةَ، فأجابَهُ بأنَّها لا تَمنَعُ مِن إقامةِ القِصاصِ، وابنُ الزُّبَير لم يَرتكِبْ أمْرًا يَجِبُ عليه فيه شَيءٌ مِن ذلك، فليس هذا بجَوابٍ لكَلامِ أبي شُريحٍ؛ لأنَّه لم يَختلِفْ معه في أنَّ مَن أصاب حدًّا في غيرِ الحرَمِ، ثمَّ لَجَأَ إلى الحرَمِ؛ هل يَجوزُ أنْ يُقامَ عليه الحدُّ في الحرَمِ، أمْ لا؟ وإنَّما أنكَرَ عليه أبو شُريحٍ بَعْثَه الخيلَ إلى مكَّةَ، واستباحةَ حُرمتِها، ونَصْبَ الحرْبِ عليها، فأحسَنَ في استِدلالِه، وحَادَ عمرٌو عن الجوابِ، وجاوَبَه عن غيرِ سُؤالِه، وهو الرجُلُ يُصيبُ حدًّا في غيرِ الحرَمِ، هل يُعيذُه الحرَمُ؟ وهذا مِن المُماطَلةِ واللَّجاجِ في المُناظَرةِ؛ لأنَّه أميرٌ مَأمورٌ، فتَكلَّفَ الخُروجَ مِن المأزقِ بأيِّ تَأويلٍ.

وفي الحديثِ: صَراحةُ نقْلِ العِلمِ، وإشاعةُ السُّنَنِ والأحكامِ.

وفيه: حُسنُ التَّلطُّفِ في الإنكارِ، لا سيَّما مع الملوكِ فيما يُخالِفُ مَقصودَهم؛ لأنَّه أدْعى لقَبولِهم.

وفيه: النَّصيحةُ لوُلاةِ الأمورِ، وعَدمُ الغِشِّ لهم والإغلاظِ عليهم إذا أُمِنتِ المفسَدةُ.

وفيه: أنَّ التَّحريمَ والتَّحليلَ مِن عندِ اللهِ تعالَى، لا مَدخَلَ لبشَرٍ فيه، وأنَّ الرُّجوعَ في كلِّ حالةٍ دُنيويَّةٍ وأُخْرويَّةٍ إلى الشَّرعِ، وأنَّ ذلك لا يُعرَفُ إلَّا منه؛ فِعلًا، وقَولًا، وتَقريرًا.

وفيه: عِظَمُ مكَّةَ وشرَفُها، زادَها اللهُ شرَفًا وتَعظيمًا.

وفيه: مشروعيَّةُ القِياسِ على أفعالِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إلَّا إذا عُلِمَ اختصاصُه بذلك الفِعلِ.

وفيه: اختِصاصُ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بخَصائصَ ليستْ لغَيرِه من البشرِ.

وفيه: فضْلُ أبي شُرَيحٍ؛ لاتِّباعِه أمْرَ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالتَّبليغِ عنه.