‌‌باب ما جاء في فضل الغدو والرواح في سبيل الله3

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في فضل الغدو والرواح في سبيل الله3

حدثنا عبيد بن أسباط بن محمد القرشي الكوفي قال: حدثنا أبي، عن هشام بن سعد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ابن أبي ذباب، عن أبي هريرة، قال: مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته لطيبها، فقال: لو اعتزلت الناس، فأقمت في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة، اغزو في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة»: هذا حديث حسن
‌‌

الجهادُ في سبيلِ اللهِ مِن أجَلِّ أعمالِ الإسلامِ، وأعلى مَراتبِ الإيمانِ، حيثُ وصَفه النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بأنَّه ذِرْوةُ سَنامِ الإسلامِ.
وفي هذا الحديثِ يَحكي أبو هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنه: أنَّه مرَّ رجلٌ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم "بشِعْبٍ"، والشِّعبُ هو الطَّريقُ الَّذي يَكونُ بين جبَلَينِ، "فيه عُيَينةٌ مِن ماءٍ"، أي: في ذلك الشِّعبِ عينُ ماءٍ صَغيرةٌ، فعُيَينةٌ تَصغيرُ عَينٍ، "عَذْبةٌ"، أي: إنَّ ماءَها عَذْبٌ طيِّبٌ، "فأعجَبَتْه لِطِيبِها"، أي: فأُعجِبَ هذا الرَّجلُ بعَينِ الماءِ لِمائِها الطَّيِّبِ العَذْبِ، "فقال"، أي: فقال ذلك الرَّجُلُ لنَفسِه: "لو اعتَزلتُ النَّاسَ فأقَمتُ في هذا الشِّعبِ"، أي: أحبَبتُ لو سكَنتُ هذا الشِّعبَ فأعتَزِلُ به عن النَّاسِ فأعبُدُ اللهَ عزَّ وجلَّ، "ولن أفعَلَ حتَّى أستَأذِنَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم"، أي: فلَن أعتَزِلَ النَّاسَ وأسكُنَ هذا الشِّعبَ حتَّى أذهَبَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم فأستأذِنَ منه.
قال: "فذكَر ذلك لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم"، أي: فأتى الرَّجُلُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فاستأذَنه في أن يَعتزِلَ النَّاسَ ويَسكُنَ ذلك الشِّعبَ الطَّيِّبَ، "فقال: لا تَفعَلْ"، أي: فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم للرَّجلِ: لا تَعتزِلِ النَّاسَ ولا تَسكُنِ الشِّعبَ ونَهاه عن ذلك؛ "فإنَّ مَقامَ أحَدِكم في سبيلِ اللهِ"، أي: فإنَّ جِهادَ أحدِكم في سبيلِ اللهِ وقيامَه في مُجاهَدةِ الكُفَّارِ ومُحاربةِ أعداءِ اللهِ ونَشْرِ دينِ اللهِ، "أفضَلُ مِن صَلاتِه في بيتِه سَبْعين عامًا"، أي: أعظَمُ أجرًا وأكثرُ ثَوابًا مِن مُكْثِ أحَدِكم في بيتِه يُصلِّي سَبعين عامًا، وكذلك أفضَلُ مِن اعتِزالِك في الشِّعبِ وعِبادتِك اللهَ وحْدَك مُعتزِلًا.
ثمَّ قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "ألَا تُحِبُّون أن يَغفِرَ اللهُ لكم، ويُدخِلَكم الجنَّةَ؟"، وهذا سؤالُ تقريرٍ؛ كأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يَقولُ لهم: إذا أرَدتُم أن يَغفِرَ اللهُ لكم ويُدخِلَكم الجنَّةَ فافعَلوا كذا وكذا، "اغزُوا في سبيلِ اللهِ"، أي: جاهِدوا في سبيلِ اللهِ، وداوِموا على الغَزوِ في سبيلِ اللهِ ومِن أجلِ نَصرِ دينِ اللهِ ونشرِ دينِ اللهِ وإعلاءِ كلمةِ اللهِ، "مَن قاتَل في سبيلِ اللهِ"، أي: ما مِن أحدٍ يُقاتِلُ في سبيلِ اللهِ لإعلاءِ كَلمةِ اللهِ ونَشرِ دينِ اللهِ، "فُوَاقَ ناقَةٍ"، فُواقُ النَّاقةِ هو مِقدارُ الوقتِ الَّذي يَكونُ بينَ حَلْبتَينِ للنَّاقةِ؛ ذلك أنَّ العربَ كانوا يَحلِبون النَّاقةَ ثمَّ يَترُكونها وقتًا قليلًا لِتُرضِعَ وَليدَها، فيَكثُرَ الحليبُ فتُحلَبَ مرَّةً أُخرى، وذلك الوقتُ بين الحَلْبتَين يُسمَّى فُواقًا، والمقصودُ أنَّ مَن خرَج يُقاتِلُ في سبيلِ اللهِ ولو وقتًا قليلًا كمِقْدارِ فُواقِ النَّاقةِ، "وجَبَت له الجنَّةُ"، أي: استحَقَّ الجنَّةَ وفازَ بدُخولِها.
وفي الحديثِ: حِرصُ الصَّحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم على سُؤالِ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في كلِّ شُؤونِهم.