باب ما رخص فيه من ذلك2
سنن ابن ماجه
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرنا ابن جريج، عن أيوب بن هانئ، عن مسروق بن الأجدع
عن ابن مسعود، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني كنت نهيتكم عن نبيذ الأوعية، ألا وإن وعاء لا يحرم شيئا، كل مسكر حرام" (1)
النَّسخُ في الأحكامِ هو العمَلُ بحُكمٍ جديدٍ بعدَ حُكمٍ سابقٍ، ويكونُ لحِكْمةٍ عَظيمةٍ مِن اللهِ سبحانه وتعالى؛ فهو الخالِقُ الَّذي قَضى الحُكمَ الأوَّلَ والثَّانيَ، فقَضى هذا في وقتٍ، وهذا في وقتٍ؛ لحِكمةٍ بالغةٍ وعِلمٍ منه سبحانَه وتعالَى.
وفي هذا الحديثِ يُبيِّن النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بعض الأحكامِ التي نُسِختْ، فيقولُ: "إنِّي كنتُ نَهيتُكم عن ثلاثٍ"، أي: إنِّي قد منَعتُكم مِن ثَلاثِ خِصالٍ؛ الأولى هي: "زيارةُ القُبورِ"، وإنَّما كان نَهيُ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم في أوَّلِ الأمرِ؛ لِقُربِ عَهدِهم بالجاهليَّةِ وما يَفعَلونه ويتَكلَّمون به مِن أمورٍ تُخالِفُ الإسلامَ، مِن تَعظيمِ القُبورِ، وغيرِ ذلك، فلمَّا استَقرَّ الإسلامُ في نُفوسِهم، ومَحا آثارَ الجاهليَّةِ، وعَلِموا أحكامِ الشَّرعِ أمَرَهم بزيارتِها، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم "فَزُوروها"، أي: القبورَ، "وَلْتَزِدْكم زِيارتُها خيرًا"، أي: لِمَا في زِيارتِها مِن ترقيقِ القلوبِ، والتَّزهيدِ في الدُّنيا والتَّقلُّلِ منها، وتذكيرِ بالآخِرةِ والإقبالِ عليها، وقيل: سمَح للرِّجالِ بالزِّيارةِ بعدَ نَهيهِم عن ذلك، وبَقِيَ النَّهيُ ولم يُرفَعْ في حقِّ النِّساءِ؛ لِما ورَد مِن نصوصٍ تَخُصُّهم بالنَّهيِ.
والثانيةُ: قال عنها النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "ونَهيتُكم عن لحومِ الأضاحيِّ بعدَ ثلاثٍ، فكُلوا مِنها ما شِئتُم"، أي: نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم صاحِبَ الأُضحيَّةِ أن يُبقِيَ لحْمَ أُضحيَّتِه إلى ما بعدَ ثلاثةِ أيَّامٍ، وأمَره أنْ يُخرِجَها إلى مَن يَحتاجُها، وأوَّلُ هذه الأيَّامِ يومُ النَّحرِ؛ فمَن ضحَّى فيه أمسَك في يومِ النَّحرِ، ويومَين بعدَه، ومَن ضحَّى بعدَ يومِ النَّحرِ فلْيُمْسِكْ ما تبقَّى له مِن الثَّلاثةِ الأيَّامِ بعدَ يومِ النَّحرِ. وقيل: أوَّلُ هذه الأيَّامِ هو اليومُ الَّذي يُضحِّي فيه، فلو ضحَّى في آخِرِ أيَّامِ النَّحرِ، لكانَ له أن يُمسِكَ ثَلاثةَ أيَّامٍ بعدَه. وعِلَّةُ النَّهيِ عن ذلك: أنَّ فُقراءَ الأعرابِ حضَروا إلى المدينةِ فاحتاجوا إلى الصَّدَقةِ والمواساةِ، فلمَّا زالَتْ عِلَّةُ الحاجةِ والفَقرِ أمَرَهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أن يَأكُلوا مِن لحومِ الأضاحيِّ في أيِّ وقتٍ شاؤوا، ويَدَّخِروا، وقيل: لو وُجِدَت تلك العلَّةُ مرَّةً أخرى يعودُ هذا الحُكمُ، وقيل: لا يَعودُ.
والثَّالِثة: وضَّحَها صلَّى الله عليه وسلَّم بقولِه: "ونَهيتُكم عن الأشرِبةِ في الأوعيةِ"، أي: نهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عن شُربِ النَّبيذِ في الأوعيةِ في أوَّلِ الأمرِ، والانتِباذُ أن يوضَعَ الزَّبيبُ أو التَّمرُ في الماءِ، ويُشرَبَ نَقيعُه قبلَ أن يَختمِرَ ويُصبِحَ مُسكِرًا، والأوعيةُ هي الظُّروفُ الَّتي كانوا يَشرَبون فيها، مثلُ الحنتَمِ، وهي: جِرارٌ كانت تُصنَعُ مِن طِينٍ وشَعَرٍ ودمٍ، والدُّباءِ، وهو: اليَقطينُ إذا جفَّ اتُّخِذ وِعاءً وإناءً، والنَّقيرِ، وهو أصلُ النَّخلةِ يُنقَرُ ويُجوَّفُ فيُتَّخَذُ مِنه إناءٌ، والمزفَّتِ، وهو ما يُطلَى بالقارِ؛ والسَّببُ في النَّهيِ عن هذه الأوعيةِ: أنَّ ما يُلْقى فيها يُسرِعُ ويَعجَلُ إليه الإسكارُ، ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "فاشرَبوا في أيِّ وعاءٍ شِئتُم، ولا تَشرَبوا مُسكِرًا"، أي: اشرَبوا في أيِّ إناءٍ تَختارون بشَرْطِ ألَّا يَصيرَ ما تَشرَبون مُسكِرًا؛ فظَهَر أنَّ عِلَّة النَّهيِ هي الإسكارُ ولَيسَتْ في الآنِيةِ؛ فمَتى وُجِد الإسكارُ وُجِد النَّهيُ.
وفي الحديثِ: بيانُ سَعَةِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ، ورَفْعِها للحرَجِ ما أمكَن، ومُراعاةُ الشَّريعةِ لِظُروفِ النَّاسِ، والتَّخفيفُ عليهم.
وفيه: وقوعُ النَّسْخِ في السُّنَّةِ، وقد ذَكَر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم نماذِجَ مِن النَّاسخِ والمنسوخِ في هذا الحديثِ .