باب ما للعبد أن يعطي ويتصدق
سنن ابن ماجه
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص بن غياث، عن محمد ابن زيد
عن عمير مولى آبي اللحم قال: كان مولاي يعطيني الشيء فأطعم منه، فمنعني، أو قال فضربني، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو سأله، فقلت: لا أنتهي، أو لا أدعه. فقال: "الأجر بينكما" (1).
الإسْلامُ دِينُ الأخْلاقِ الفاضِلةِ والآدابِ السَّاميةِ معَ النَّاسِ كلِّهم، حتَّى معَ الخَدمِ الَّذين يَخدُمونَ بأجْرٍ، وأيضًا العبيدُ والمَماليكُ؛ فقدْ أمَرَ بالإرْفاقِ بهم، وساعَدَ على تَحْريرِهم منَ الرِّقِّ والعُبوديَّةِ.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي عُمَيرٌ مَوْلى آبي اللَّحمِ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ مالِكَه ومَوْلَاهُ أمَرَه أنْ يُقَطِّعَ لحمًا ويُجفِّفَه في الشَّمسِ، على عادةِ العرَبِ، والقَدُّ: هو الشَّقُّ طُولًا، ووقَعَ في بعضِ النُّسخِ: «أنْ أقْدُرَ لَحمًا»، أي: أطبُخَ قِدرًا من لحمٍ.
فجاءَ مِسكينٌ مُحتاجٌ، فأَعْطَاه مِنَ اللَّحْمِ بغيرِ إذنِ سيِّدِه، فعرَفَ سيِّدُه بالَّذي أنفَقَه وتَصدَّقَ به، فضرَبَه تأْديبًا، حيثُ أساءَ بالتَّصرُّفِ في غيرِ مالِه دونَ إذْنِ صاحِبِه، فجاءَ عُمَيرٌ رَضيَ اللهُ عنه إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذكَرَ له ما حدَثَ، فاستَدْعى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مالِكَه للحُضورِ عندَه، فسَألَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لِمَ ضَرَبْتَه؟» وهذا اسْتِبيانٌ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن حالِ الضَّرْبِ وسَببِه أوَّلًا، فأخبَرَ الرَّجلُ صاحبُ المالِ وسيِّدُ الغُلامِ أنَّ السَّببَ أنَّه يُعْطي مِن طَعامِه بغَيرِ إذْنِه، فقال له الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «الأجْرُ بيْنَكما»، وهذا تَعْليلٌ لمحذوفٍ؛ أي: لا تَضرِبْه بذلك؛ لأنَّ الأجْرَ الحاصِلَ بتَصدُّقِه بمالِكَ يكونُ بينَكما إنْ رَضِيتَ بذلك، فأحْلَلْتَ لِخادِمِكَ إعْطاءَ مِثلِ هذا مِمَّا يَجرِي فيه المُسامَحةُ، فلكَ أجْرُ الصَّدَقةِ، وليس المرادُ تَقريرَ العبدِ على أنْ يُعطيَ بغيرِ رِضَا المَوْلَى، بل كَرِهَ صَنيعَ مَوْلاهُ في ضَربِه على أمْرٍ تبيَّنَ رُشدُه فيه، فحثَّ السَّيِّدَ على اغْتنامِ الأجْرِ والصَّفحِ عنه، فهذا تَعليمٌ وإرْشادٌ لآبي اللَّحمِ لا تَقريرٌ لفِعلِ العبدِ.
وقولُه: «الأجْرُ بينَكما» ليس مَعناه: أنَّ الأجْرَ الَّذي لأحَدِهما يَزدَحِمانِ فيه فيَتقاسَمانِ أجْرَ المالِ نفْسِه، بل مَعناه: أنَّ لكلٍّ منهما أجْرًا، يَعني: أنَّ هذه الصَّدقةَ الَّتي أخرَجَها المملوكُ بإذْنِ المالكِ يَترتَّبُ على جُملَتِها ثَوابٌ على قَدْرِ المالِ والعَملِ، فيكونُ ذلك مَقسومًا بيْنَهما: لهذا نَصيبٌ بِمالِه، ولهذا نَصيبٌ بعَمَلِه، فلا يُزاحِمُ صاحِبُ المالِ العامِلَ في نَصيبِ عَملِه، ولا يُزاحِمُ العامِلُ صاحبَ المالِ في نَصيبِ مالِه.
وفي الحَديثِ: أنَّ العبدَ والسَّيِّدَ يُؤْجَرانِ بتَصدُّقِ العبدِ؛ السَّيِّدُ بمالِه، والعبدُ بعَملِه.
وفيه: تأديبُ السَّيِّدِ عبْدَه إذا أساءَ.